في تطور يعكس عمق الأزمة الاقتصادية المدمرة، أعلنت حكومة صنعاء صرف نصف مرتب أكتوبر فقط لمئات الآلاف من موظفي الخدمة العامة، في مشهد يتكرر شهرياً ليذكر أكثر من مليون موظف حكومي بمرارة واقعهم المعيشي المتدهور. هذا القرار، الذي تصفه الحكومة بـ"الحل الاستثنائي المؤقت"، يضع الموظفين أمام تحدٍ يومي جديد: كيف يمكن لعائلة أن تعيش على نصف راتب في بلد ترتفع فيه الأسعار كالنار في الهشيم؟
أحمد محمد، المدرس الابتدائي وأب لخمسة أطفال من صنعاء، يقف في طابور طويل أمام مكتب البريد وعلى وجهه علامات القلق الممزوج بالامتنان. "نصف مرتب أفضل من لا شيء، لكن كيف سأوفر الحليب والخبز لأطفالي؟" يتساءل أحمد بصوت مرتجف. الإحصائيات تكشف حجم الكارثة: 50% فقط من المرتب الأساسي لموظف يحصل على 100 ألف ريال، يعني 50 ألف ريال فقط - مبلغ لا يكفي حتى لشراء كيس أرز واحد في الأسواق اليوم. د. عبدالله الشامي، الخبير الاقتصادي، يؤكد: "هذا المبلغ يعادل ما يصرفه مواطن خليجي على وجبة عشاء واحدة فقط."
وخلف هذا القرار المؤلم تقف 11 سنة من الحرب المدمرة التي نهشت كل مقومات الدولة اليمنية. منذ 2014، والبلاد تعيش تحت وطأة حصار اقتصادي خانق، حيث تسيطر دول التحالف على إيرادات النفط والغاز - الشريان المالي الوحيد لدفع المرتبات. مقارنة بما كان عليه الحال قبل الحرب، عندما كان الموظف اليمني يحصل على مرتبه كاملاً في موعده، يبدو المشهد الحالي وكأنه حلم بعيد المنال. د. فاطمة السياغي، وزيرة الخدمة المدنية، تصارع يومياً لتوفير هذه المبالغ المحدودة عبر "قانون الآلية الاستثنائية" - وهو نظام طوارئ صُمم ليكون مؤقتاً لكنه أصبح الحقيقة المرة للملايين.
سارة علي، الموظفة في وزارة الصحة، تقف خارج البنك وقد امتزجت على وجهها مشاعر متضاربة. "في الليل، أحسب وأعيد الحساب: كيف سأقسم هذا المبلغ بين إيجار البيت والدواء وطعام الأطفال؟" تحكي سارة وهي تمسك بقوة برسالة SMS تؤكد وصول نصف راتبها. هذا المشهد يتكرر في كل شارع وحي بصنعاء، حيث يضطر الموظفون لترشيد كل ريال، واللجوء للديون، والبحث عن أعمال إضافية بعد انتهاء دوامهم الرسمي. الخبراء يحذرون من انهيار كامل للخدمات العامة إذا استمر تآكل مرتبات الموظفين، بينما المنظمات الدولية تدق ناقوس الخطر من تفاقم الأزمة الإنسانية.
رغم كل هذه التحديات، تؤكد حكومة صنعاء التزامها بالصرف الشهري حسب الإمكانيات المتاحة، مشددة على أن هذه ليست حلولاً نهائية بل "ضرورات استثنائية" في زمن استثنائي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة أمام مليون موظف ومئات آلاف العائلات المتضررة: إلى متى سيصمد هؤلاء الناس أمام تآكل مرتباتهم؟ وهل من ضوء حقيقي في نهاية هذا النفق المظلم الذي لا يبدو له نهاية؟