في قلب صحراء المهرة اليمنية، تنفتح فوهة غامضة على العالم السفلي تدعى بئر "برهوت" - ذلك المكان الذي أحاطته الأساطير والحكايات الشعبية لقرون طويلة.
هذه الحفرة العملاقة التي يطلق عليها السكان المحليون اسم "قعر جهنم" ظلت تثير الرعب والفضول معاً، بينما تتصاعد منها روائح كريهة تزيد من غموضها وتستفز خيال الباحثين والعلماء.
ويتعمق هذا اللغز الجيولوجي في أرض اليمن دون أن يكشف أسراره بسهولة، ليبقى أحد أكثر الظواهر الطبيعية إثارة للجدل وتحدياً للعلماء الذين حاولوا سبر أغواره.
بئر برهوت: الأسطورة والواقع:
تنتشر حول بئر برهوت العديد من الروايات الأسطورية المتوارثة عبر الأجيال، حيث يعتقد السكان المحليون أنها بوابة للجحيم ومسكن للأرواح الشريرة والجن.
وتكشف الحكايات الشعبية أن هذه البئر تلتهم كل من يقترب منها، وأن الروائح الكريهة المنبعثة منها هي أنفاس الأرواح الشريرة.
وترسخت هذه المعتقدات في الثقافة المحلية لدرجة أن معظم السكان المحليين يتجنبون الاقتراب منها، معتبرين أن مجرد النظر إليها قد يجلب الحظ السيء.
وتشير الدراسات الأولية إلى أن البئر عبارة عن ثقب طبيعي في قشرة الأرض يبلغ عمقه ما يقارب 250 متراً وعرضه حوالي 30 متراً.
وعلى الرغم من التفسيرات العلمية، تظل السلطات اليمنية محدودة المعرفة بما يوجد في قاع البئر بسبب صعوبة الوصول إليه والظروف الخطرة المحيطة به.
ووفقاً للمصادر المحلية، فإن الحفرة تعود لآلاف السنين، وقد ذكرت في العديد من المصادر التاريخية والقصص القديمة، مما يزيد من أهميتها الثقافية والتاريخية في المنطقة.
مغامرة الباحثين العمانيين
في عام 2021، قام فريق من الباحثين العمانيين بمحاولة جريئة لاستكشاف أعماق بئر برهوت، في مغامرة غير مسبوقة لسبر أغوار هذا اللغز الطبيعي.
وباستخدام معدات تسلق متطورة وأجهزة قياس متخصصة، تمكن الفريق من النزول إلى مسافات لم يسبق لأحد الوصول إليها في البئر.
وخلال رحلتهم، واجه الباحثون تحديات جمة، بدءاً من الظروف المناخية القاسية وحتى التضاريس الصخرية الخطرة داخل البئر.
ووصف أحد أعضاء الفريق تجربة النزول إلى البئر بأنها "كالنزول إلى عالم آخر"، حيث اكتشفوا وجود أنواع مختلفة من الأفاعي والعناكب والحشرات التي تعيش في هذه البيئة القاسية.
كما تمكن الفريق من التقاط صور فريدة من داخل البئر، توثق للمرة الأولى المشاهد المذهلة للتكوينات الصخرية والكهوف الداخلية.
وقدمت هذه المغامرة معلومات قيمة للعلماء، وفتحت الباب أمام استكشافات مستقبلية قد تساعد في حل لغز هذه البئر الغامضة، كما أفاد المراسلون المتابعون للرحلة الاستكشافية.
البئر من منظور جيولوجي:
يرجح علماء الجيولوجيا أن بئر برهوت تشكلت نتيجة لانهيار كهف جوفي قديم، أو ربما بفعل نشاط بركاني في العصور القديمة.
ويشير الخبراء إلى أن الروائح الكريهة المنبعثة من البئر ناتجة عن غازات طبيعية مثل كبريتيد الهيدروجين وغيرها من المركبات العضوية المتحللة.
وقد أظهرت التحاليل الأولية للعينات المأخوذة من البئر وجود تركيبة جيولوجية فريدة قد تساعد في فهم تاريخ تكون المنطقة بشكل أفضل.
تعتبر البئر ظاهرة كارستية نادرة في المنطقة، وهي تشبه في تكوينها بعض المنخفضات والحفر الموجودة في مناطق أخرى من العالم.
وتكمن أهمية دراستها جيولوجياً في إمكانية الكشف عن مراحل تطور القشرة الأرضية في هذه المنطقة من اليمن.
وقد أكد الباحثون المتخصصون في الجيولوجيا أن هذه البئر تمثل مختبراً طبيعياً لدراسة التاريخ الجيولوجي للمنطقة، والتغيرات المناخية التي مرت بها عبر آلاف السنين، الأمر الذي قد يساهم في فهم أفضل للتطور الجيولوجي لشبه الجزيرة العربية بشكل عام.
وتبقى بئر برهوت شاهداً طبيعياً فريداً يجمع بين الأسطورة والعلم، تحيط به هالة من الغموض تتحدى الفهم البشري رغم التقدم العلمي المعاصر.
ورغم أن المحاولات الاستكشافية الأخيرة فتحت نافذة صغيرة على عالمها الداخلي، لكن الكثير من أسرارها ما زال ينتظر الكشف.
ويبدو أن التوازن الدقيق بين احترام المعتقدات المحلية والاستكشاف العلمي سيكون مفتاحاً لمزيد من الدراسات المستقبلية التي قد تقدم إجابات عن هذه الظاهرة الطبيعية الاستثنائية، ليس فقط لفهم تكوينها الجيولوجي، بل أيضاً لفهم تأثيرها العميق في الثقافة والتراث اليمني.



