الرئيسية / تقارير وحوارات / ما بعد الربيع العربي .. الإسلاميون بين مسار «الخلافة» ومسار «الدولة» (رؤية تحليلية)
ما بعد الربيع العربي .. الإسلاميون بين مسار «الخلافة» ومسار «الدولة» (رؤية تحليلية)

ما بعد الربيع العربي .. الإسلاميون بين مسار «الخلافة» ومسار «الدولة» (رؤية تحليلية)

27 يونيو 2016 09:41 مساء (يمن برس)
تحول "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" بعد ما شهدته المنطقة من ثورات وأحداث منذ العام 2011 وما تمخض عنها تباعا، من تنظيم عالمي ينضوي تحت مظلة "القاعدة" ويهدف لمنازلة أميركا "وعملائها من الحكام العرب" (بجهاد النكاية الذي تقتصر وظيفته على التهيئة للخلافة وليس لإقامتها)، إلى كيان يقود نموذجه للحكم والدولة "الخلافة الإسلامية" ولتصبح وظيفة الجهاد معه إقامة الدولة وحمايتها.
 
فإحدى أهم التحولات التي كشفت عنها الثورات العربية، أو ساهمت هي في صياغتها: أن تغيير "الدولة ووظيفتها" جذريا هو المدخل الطبيعي نحو تغيير الواقع العربي وما يشهده من إخفاقات وانتكاسات، وأن السؤال السياسي باتت له متطلبات عاجلة تسبق أي سؤال ديني أو أخلاقي أو ثقافي كسبيل نحو نهضة العرب، لاسيما وأن طروحات الإصلاح السياسي عبر الإصلاح الدعوي والتبشير الديني والتنظير الثقافي كمدخل رئيسي، قد وصلت في المجتمع العربي على وجه الخصوص إلى مرحلة متقدمة من التشبع لم تصلها قبلا، كما لم تترك السلطة العربية أي انجاز يحرز في هذا المضمار أو عبر هذا السبيل إلا انقلبت عليه، لتعيد الأمر مرة أخرى إلى بدايته، وكأن شيئا لم يحدث أو لم يكن.
 
الاتجاه إلى ما بعد الجهادية
 
هذه المقدمة هي إحدى الفرضيات التي يمكن الانطلاق منها نحو توضيح إحدى أهم السمات التي قادت تنظيم الدولة نحو "السلطة" للهيمنة عليها أو إعادة بنائها بهدف التغيير من أعلى مباشرة وعدم التعويل على أي حاضنة شعبية، وكذلك عدم بذل أي جهد لتثقيفها أو إصلاحها بل يكفي إخضاعها بالقانون (بالشريعة كما يفهمها)، وهو ما يمكن قراءته في بعض الأسباب المعلنة من قبل التنظيم، ودفعته للانفصال عن تنظيم القاعدة ومن ثم بالتالي انقسام التيار الجهادي إلى قسمين رئيسين على الأقل، ومن هذه الأسباب:
 
الأول:
 
أحدها مباشر ويتصل بالخلاف حول مرجعية "جبهة النصرة" السورية، التي رأت نفسها فصيلا مستقلا، لا يرتبط بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، الذي كان فرعا من فروع القاعدة في المنطقة ويرأسه "أبو بكر البغدادي". أما منشأ النزاع فكريا وفقهيا -فضلا عن بعده التنظيمي- والذي ضرب نهج التيار الجهادي يقوم على السؤال التالي: ما الذي يعطي فصيلا جهاديا الحق لأن يكون المركز دون الآخر، لاسيما وأن النص الديني يسمح بتعدد "أمراء القتال" لاسيما وأن التيار الجهادي الذي أطلقته القاعدة أول الأمر لا يعترف بشرعية الأحزاب السياسية (1)، لأن الشرعية الوحيدة الممكنة لديه في غياب خليفة المسلمين هي "أمير القتال" و"الجهاد"فحسب، ما يسمح بتعددهم (2).
 
وبهذا فإن السبب الذي يسمح للبغدادي لأن يكون أمير القاعدة على العراق والشام، هو نفسه يسمح لأبي محمد الجولاني أن يكون أميرا للقاعدة على الشام لا بل وعلى سواها لو أراد،فكلاهما أمير قتال، ولا يجمعهم إلا البيعة لرأس تنظيم القاعدة "أيمن الظواهري" (وهو أمير قتال أيضا)، لذا كان من المنطق وفق هذا التوصيف وفي هذه الحالة العودة إليه.
 
إلا أن هذا الأخير أيد الجولاني فما كان من البغدادي إلا أن قلب الطاولة على القاعدة وأعلن نفسه خليفة أي "إمام دولة" ببيعة من بعض أتباعه، وكأنه يقول ما دام الأمر بيعة فلتكن "بيعة خليفة" وهي فوق كل بيعة، ولتصبح الخلافة وما تمثله من "سلطة" توازي سلطة الدولة، هي التي تقود "التيار الجهادي" وليس مجرد فصيل مثل "القاعدة". وانسحبت تأثيرات هذا التوجه على كل ما بعده، وبالتالي أخذ جوهر التيار الجهادي يتغير ولم تعد شرعية "الأمير" الدينية هنا تستمد من شرعية قيادته "للجهاد"، بل من شرعية "الخلافة" وهي فوق كل شرعية، ولهذا اصطلحت هذه الورقة على تسمية هذا الاتجاه باسم "ما بعد الجهادية"، لأن شرعية التيارات الجهادية أصبحت تستمد في هذه الحالة من سعيها لإقامة الخلافة وقد اقامتها، وليس من مجرد إحيائها "الجهاد" (وتحديدا جهاد النكاية) في ظل عدم وجود "خليفة".
 
الثاني:
 
وهو الذي استقر الإعلان عنه بعد إعلان الخلافة، وجوهره الاختلاف حول الموقف من الثورات العربية، حيث اعتبرت القاعدة الثورات العربية إحدى الخطوات التي لا تتناقض معها لا بالمنهج ولا بالآليات، ولكن مع عدم الاقتصار عليها أو التخلي عن "الجهاد". وهو ما أعلنه أيمن الظواهري بنفسه يوم إعلان تنصيبه أميرا للقاعدة (في يونيو/حزيران 2011) خلفا لأسامة بن لادن حيث قال: "نؤيد ونساند انتفاضة شعوبنا المسلمة المظلومة المقهورة في وجه الطغاة"، مع تأكيده على الانتظار إلى أن يأتي التغيير الحقيقي "بإقامة حكم الشريعة"، وذلك في رد عاجل على ما يبدو على مقولات واستنتاجات مفادها أن نجاح الثورات العربية يدل على عقم التغيير عبر "الجهاد" الذي تعتمده القاعدة، وأن يوم مولد الثورات العربية بما تعنيه من سلمية ودولة مدنية هو يوم نهاية التيارات "الجهادية" وما تمثله من فقه غزو وتغيير بالسلاح والعنف.
 
كما أن فشل الثورات في معظم الدول التي نشبت فيها، شجع أو دفع بفاعلين رسميين وغير رسميين، دولا وتنظيمات إلى التدخل بقوة ووضوح للدفاع عن مصالحها أو لتحقيق مصالح أخرى ربما لم تكن لتفكر بها في ظروف أخرى، من ذلك على سبيل المثال التحول في سلوك إيران وحزب الله في سوريا (من أولوية محاربة إسرائيل ومواجهة أميركا إلى محاربة الثورات ومواجهة الدول الداعمة لها).
 
في حين نجد بالمقابل حيث نجحت الثورة نسبيا، أي تونس، تبادر "حركة النهضة" هناك إلى تسريع تحولها من جماعة إسلامية دينية نهضوية شاملة ترى في تغيير المجتمع سبيلا لتغيير السلطة، إلى حزب سياسي يعترف بالدولة الحديثة ككيان شرعي لممارسة التغيير أو رعايته، وهو ما يتبلور اليوم في إعلان الحركة فصل العمل السياسي عن الدعوي من باب تخصصها بالأول وترك الأخير للمجتمع المدني.
 
واستطرادا يمكن التأكيد أن هذا الإجراء سيصل إلى كل التنظيمات المحسوبة على فكر حركة الإخوان المسلمين في كل مكان خاصة في مصر لأنهم مارسوها عمليا ووضعوا بذرتها (بترشيحهم محمد مرسي للانتخابات الرئاسية وهو ما سيشار إليه أدناه مرة أخرى)، لتصبح الدولة هي المطلب الأول والأولوية القصوى للعمل السياسي لهذه الحركات، وهو ما تختصره إحدى تصريحات راشد الغنوشي في المرحلة الراهنة عند حديثه عن مؤتمر حركته العاشر وما يحمل من تغييرات: "نريد أن ننتقل من جماعة غلب على منهجها الاحتجاج إلى حركة تقود الدولة وتؤسس فكر الدولة. نريد لهذا المؤتمر أن يقدم رسالة واضحة أن تاريخ الصراع مع الدولة قد انتهى". (العبارة من صفحته على الفايس بوك).
 
في هذا السياق الآنف الذكر يمكن فهم اندفاع تنظيم الدولة ليعلن دولة الخلافة في المنطقة ويطمح للتمدد، فهو جزء من هذا التطور السياسي والفكري الذي شهدته المنطقة في بداية الثورات، لا بل بعبارة أوضح هو استدراك واعتراض عليه، وعلى صعيدين:
 
الصعيد الأول: ويرتبط تحديدا بالتطور الفكري الذي جعل الإسلاميين بعد الثورات العربية "تيارا دولتيا" أي ينشد التغيير من خلال "الدولة" لاسيما بالاعتراف بأهمية دورها المفتاحي في هذا الشأن، وبالتالي ضرورة التوجه إليها مباشرة بالتغيير وليس عبر المجتمع، وهو ما شهدناه مع الحالة الإخوانية وحتى مع بعض التيار السلفي، في عدة دول منها مصر وتونس.
 
وربما يجدر التذكير في هذا السياق أن تيارا سلفيا عريضا في مصر تخلى عن كل تحفظاته في لحظة سياسية مفاجئة وقال بجواز الانخراط باللعبة السياسية تحت مظلة الدولة الحديثة (بعد أن كان يعدها من المحرمات وربما من المكفرات)، سواء في الترشح للرئاسة (3) والبرلمان أو المشاركة في الحكومة وكافة أجهزة الدولة، وغني عن التذكير بالنسبة للإخوان أنهم اعترفوا عمليا بشرعية الدولة القطرية عمليا، حتى أن رئيسا من ترشيحهم وصل إلى رأسها (الرئيس محمد مرسي) وزاول الحكم وفق شروطها.
 
وبالمقابل، يمكن قراءة "تنظيم الدولة الإسلامية" كحالة اعتراضية على هذا التطور الفكري والديني وتحديدا في الجزء الذي يعترف بالدولة الحديثة وبشرعية الديمقراطية كأحد السبل الموصلة إليها. فأراد التنظيم بإعلانه الخلافة قطع الطريق على هذا النموذج الإسلامي الحديث للدولة كي لا يتكرس كنموذج واقعي وناجح أو مقبول نسبيا، وكي لا يسعى إليه الإسلاميون متجاوزين النموذج التاريخي الذي طالما نظروا له، أي نموذج "الخلافة" بصورته التقليدية.
 
الصعيد الثاني: يرتبط بالتطور السياسي، حيث شهدت المنطقة في أعقاب الثورات العربية مباشرة تحركات إقليمية ودولية، (تحفظ إيراني عليها ورفض عام لها من قبل الأنظمة العربية وخشية روسية وأميركية وروسية من نتائجهاوهكذا..) كان يصب جلها في مصلحة وقف الثورات ومحاصرة تداعياتها مع استعداد الجميع، رغم كل الخلافات التي تفصل بين أطرافها، القبول بأي بديل ولو مرحليا، ما أتاح الفرصة لتنظيم الدولة الإسلامية للتسلل أولا والظهور ثم أعطاه فرصة للبقاء لا بل حتى للتمدد، حتى بات اليوم جزء من لعبة سياسية أكثر تعقيدا.
 
تداعيات ما بعد الجهادية
 
إن أهم التأثيرات التي خلفتها الثورات العربية على الإطلاق في المنطقة أنها أعطت الأولوية لتغيير الجهاز السياسي الذي يحكم الناس دون الاستغراق في العمل المرحلي الذي يستهدف تغيير المجتمع أي من أدنى إلى أعلى، ومن المتوقع أن تستقر التنظيمات الإسلامية الإخوانية الفكر على هذا التوجه كأحد أهم الجماعات السياسية المعتدلة من خلال تركها للعمل الدعوي الديني للمجتمع المدني وجمعياته وذلك من باب تخصص كل منها في بابه.
 
ولا يبتعد تنظيم الدولة الإسلامية عن هذا "الفكر الدولتي" ولكن وفق نموذجه الخاص، فقد جعل هدف "الجهاد" الأساسي إقامة الدولة الإسلامية، وذلك بخلاف ما عليه تنظيم القاعدة الذي ما يزال نظريا يشترط ملائمة الظروف لإقامتها كما كان حاله قبل الثورات، ويكتفى بما يسميه "جهاد النكاية" في مقارعة أميركا وإسرائيل لأنه لا يمكن إقامة دولة الخلافة دون هزيمة هذا المحور في المنطقة أولا، مع تسليمه بوجوب الجهاد لدفع "الصائل" أو المعتدي -عليهم أو على المسلمين- سواء كانت سلطة محلية أو دولة خارجية.
 
وتفصيلا لا يمكن الجزم أن تنظيم الدولة كان يؤمن ابتداء باعتماد "الجهاد" كإستراتيجية لإقامة "الخلافة" كأولوية، ولا حتى في المرحلة الأولى من خلافه مع تنظيم "القاعدة"، وربما دفعته الظروف ليعتمد هذه المقولة كأحد المبررات لإعلانه "دولته" في سياق خلافه مع "القاعدة" للطعن في منهجها، أو للدفاع عن "دولته" بعد قيامها ليبرر شرعيتها وشرعية دوره المركزي في قيادة كل الجماعات الإسلامية دون سواه، وقد يكون بهذا أضعف من شرعية تنظيم القاعدة المستمدة من شرعية "إمارة الجهاد"، ولكن الأكيد أنه أطلق توجها جهاديا جديدا في المنطقة، جعل "الدولة" هي مركز عمله، وذلك سواء استمرت الخلافة التي أعلنها أو انتهت لأي سبب من الأسباب.
 
أما تنظيم القاعدة فما يزال قادرا ولو في الظرف الراهن على الثبات على إستراتيجية جهاد النكاية"، لأن "خلافة" تنظيم داعش لم تستقر شرعيتها لا بالنسبة له (فهو يرى بيعة البغدادية غير مستوفية للشروط) ولا من الناحية الواقعية (لم تكتمل عناصر الدولة فيها)، كما أن داعش نفسه ما يزال يعتمد هذا النوع من "الجهاد" (النكاية) خاصة على أرض "العدو" نفسه، مثل التفجيرات الأخيرة التي شهدتها أوروبا وتركيا وسواها من تلك المنسوبة إليه، ما يحفظ لهذا النوع من "الجهاد" المزعوم قدرا من الفعالية والاستمرارية وبالتالي بعض الشعبية في البيئة "الجهادية".
 
ولكن على المدى البعيد، إذا لم تسارع القاعدة على تغيير نهجها على المدى القريب، فإنها ستجد نفسها مضطرة لأن تجيب على التحدي الذي طرحه تنظيم الدولة بإعلانه الخلافة وخلاصته عمليا أن "الجهاد" لا أهميةكبرى له إذا لم يكن لإقامة دولة. كما أن الحركات الإسلامية السياسية لا سيما الإخوانية ستسبقهم بخطوة في هذا السبيل بحسمها الأولوية للعمل السياسي من أجل "الدولة"، ومن الممكن جدا حينها أن لا يقتصر رد القاعدة على البعد النظري وسيحتاجون لتفعيله على أرض المنافسة أي اعتناق "الجهاد" لإقامة دولة "الخلافة" وإن بمعايير مختلفة للتمايز عن داعش وللتأكيد على رفضهم للدولة الحديثة.
 
أما في الوقت الراهن وعلى المدى المتوسط، إن ما يتعرض له المسلمون في سوريا والعراق ومواضع أخرى مما تصنفه القاعدة تحت عنوان الجهاد الدفاعي أو "دفع الصائل" ما يزال يقوي من موقفها نسبيا وبجعلها أكثر قبولا من داعش بالنسبة للجمهور "الجهادي" أو بالنسبة لسواهم عند المقارنة بين هذين التيارين.
 
ولكن ما أن تبدأ التسويات السياسية في المنطقة في سوريا والعراق واليمن وسواها من المحاضن المتفجرة، وعلى أساس "الدولة الحديثة" بغض النظر عن قوتها أو هشاشتها، فإن القاعدة ستبدو وكأنها تعتمد جهادا لا غاية واضحة له، لأنها لا تزال تعلق إقامة "الخلافة" على شروط مثالية قد لا تأتي أبدا وفق قاموسه الشرعي الحالي ما سيحتم عليهاالإذعان والانضمام إلى فكر ما بعد الجهادية، أي دخول مرحلة الجهاد من أجل إقامة "الخلافة" وليس فقط لمنازلة أميركا وعملائها بغية هزيمتهم بانتظار ملائمة الظروف لإقامة دولة الخلافة، لكنها في هذه الحالة ستطرح نفسها كحركة تصحيحية في هذا التيار، وأنها الأكثر تعبيرا عنه والأولى به من داعش.
 
في الختام إن التيار الإسلامي شهد تطورا كبيرا بتسليمه بأولوية التغيير السياسي "الدولتي" على الإصلاح الديني والوعظي للمجتمع كما هو السبيل الذي تسير نحوه الحالة الإخوانية، أو بقوله أن الجهاد لإقامة الخلافة وليس للتهيئة لها كما هو الشأن مع تنظيم داعش بعد أن اقام دولته، وهذان الفكران سيشكلان من هذه الحيثية قاطرة لكل الإسلاميين إلى المستقبل رغم تناقضهما في فهم الدولة والمسار إليها، ما يشي بأن قواعد النزاع والاختلاف قد تتغير في العالم العربي والمنطقة، لتكون نزاعا ما بين "الإسلامية الدولتية" في مواجهة "ما بعد الجهادية"، ونزاعا على الدولة وبشكل مباشر ما بين الإسلاميين عموما من جهة وسواهم من غير الإسلاميين من جهة أخرى.
 
• كاتب وباحث متخصص بالمشرق العربي والحركات الإسلامية
 
شارك الخبر