الرئيسية / تقارير وحوارات / عمامة مقدسة تلف صعدة ملطخه بقربان الدماء.. أهلاً بكم في مدينة ابن رسول الله المُحرمة !؟
عمامة مقدسة تلف صعدة ملطخه بقربان الدماء.. أهلاً بكم في مدينة ابن رسول الله المُحرمة !؟

عمامة مقدسة تلف صعدة ملطخه بقربان الدماء.. أهلاً بكم في مدينة ابن رسول الله المُحرمة !؟

05 مارس 2012 12:30 مساء (يمن برس)
لا يبدو أي تواجد للحكومة ، حتى العلم الوطني، ذو الألوان الأحمر، الأبيض والأسود، لم يعد له تواجد، سوى في مواقع حكومية.

جماعة الحوثي صارت قوة عسكرية في أقصى الشمال اليمني، وتريد أن تفرض أجندة سياسية لها في المستقبل، هكذا تُفسر الحروب التي تخوضها في حجة من أجل التوسع، إنها طريقة كلاسيكية في دولة الأئمة منذ أكثر من ألف عام

علقت مازحاً؛ هل أخذتم جوازات سفركم، ملوحاً بجوازي، بينما كنا ننتظر في الجهة المقابلة للمطعم من الطريق إلى صعدة. توقفت السيارة في ذيفان من أجل تناول الفطور. هل أخذت جواز سفري من أجل تلك المزحة، ربما. لم نكن على وشك عبور حدود دولة أخرى، فقط ندخل أرضاً خرجت كلياً عن سيطرة الحكومة المركزية. في الواقع، بعد عبور النقطة الأمنية على حدود مدينة صنعاء، في الطريق نحو أقصى الشمال، نكون دخلنا منطقة ملتبسة، لا تخضع لسيطرة الدولة، سوى في علاقات ملتهبة ضمن شكل نفوذ تصنعه العصبة القبلية المسلحة. بصورة ما، إنها المنطقة الملغمة كلياً والتي شكلت عبر قرون ماضية، منطقة الجيش غير النظامي الجاهز للحكومة المركزية، أو لشكل ميزان الصراعات السياسية. هل ندخل المنطقة المحرمة، عبر سياج من المقاتلين، ودرع عقائدي تتشكل حقبة جديدة قد تتطور إلى خريطة مذهبية، مليئة بالنزاعات يمكن امتدادها والتهامها المنطقة القبلية في حروب عنيفة.

بينما ننتظر قام أحد المراسلين التلفزيونيين بطبع ملصقات خاصة بالحوثي تعلن عن الاحتفال بالمولد النبوي، على مقدمة المركبات التي تقلنا، وهي ثلاثة من نوع "الميكرو باص"، وعندما أراد إلصاق واحدة على سيارة دفع رباعي تقل فريقاً صحفياً يتبع الجزيرة الانجليزية، طراز ميتسوبيشي، رفض خالد الحمادي بحزم. كنا مازلنا ننتظر الفطور، لكن لماذا يقحم مراسل تلفزيوني نفسه بعمل يجرده من تواجده المهني. هل كنا نتخلى إذن، عن هويتنا ونحن محشورون في مركبات تحمل شعارات يرفعها أنصار الحوثي القادمون من أجل المناسبة. كانت المركبات التي تقلنا استأجرها الحوثيون، وكان هذا الاستئصال الجزئي لهوياتنا يرجع ربما لحساسية تواجدنا هناك، فنحن سنمر عبر مناطق قبائلها مناهضة للحوثي.

في سيارة الدفع الرباعي الخاصة بفريق الجزيرة الانجليزية، كانت تجلس فتاة في المقعد الخلفي، تغطي وجهها ببرقع، أثارت تساؤلاً عن طبيعة تواجدها معنا. خصوصاً وأن الطريق يعبر منطقة ملتهبة.

الطريق إلى صعدة
استوقفني رجل ستيني، ليسألني إن كنا سنشارك مع الحوثيين احتفالهم. بالطبع وجودنا هناك مختلف، نبحث عن انطباعات تخص حدسنا. سألت أحمد الذيفاني إن كان يناصرهم، أجاب "الله لا قال" ما يعني رفضه المطلق لهم. هناك أيضاً عدد من السيارات المتجهة إلى صعدة للمشاركة في الاحتفال. بدا الأمر يزعج الذيفاني، وعندما انتبه للهجتي التعزية (نسبة إلى مدينة تعز)، قال بلهجة مريرة، معتقداً أنني مناصر لهم؛ كل ما حدث في البلد لأجل تعز، بينما تتحالفون مع هؤلاء. وضحت له أن الأمر مجرد مهمة صحفية، وإذا ذهب شخص من مدينة ما، فهو يمثل نفسه. كان يزعجه توسع الحوثيين. الملصقات المطبوعة على السيارات بمثابة رسالة حوثية للمجتمع المعادي لها من القبائل، عن حجم قاعدتها خارج صعدة.

إحدى القواعد السياسية، اللعب على خارطة الصراع القبلي، وهو ما ستحاول الاستقطابات السياسية الجديدة فعله. مازال يعيش قليل من اليهود في مدينة ريدة. تشكل الطريق أداة ضغط تمارسها قبائل حاشد على الحوثيين، بقطعها. سيخبرنا ضيف الله الشامي أثناء جلسة مقيل في صعدة، أن تهديداً حوثياً وجه للقبائل حتى تمر قوافل أنصارهم بسلام. مع ذلك كان يبدو حديثه نوعاً من الدعاية لاستعراض القوة. كان هناك تفاهم مع وجاهات لمنع أي تقطعات.

يفكر الحوثيون بمد طريق استراتيجي يربط صعدة بصنعاء عبر أرحب، لا يمر عبر حاشد. تثير الطريق الوجه القاسي لمناطق جبلية. سلسلة صخرية تمتد كقواطع بامتداد الطريق. على حواف الطريق تنبت أشجار السدر والطلح. عندما مررنا أمام تجمع مسلحين بوجوه متجهمة. تهكم عليهم مرافقنا الموالي للحوثيين، مثيراً طبيعة العلاقة المشوبة بالصراع بين جماعته، ورجال القبائل هنا. كان المسلحون يرمقون نحو موكبنا بزوايا عيونهم.

بعد منطقة حوث، مررنا بنقطة يشكلها مسلحون قبليون، بدوا مناصرين للحوثي من ترحيبهم بنا. بعد خيوان نشاهد للمرة الأولى شعاراً ينتمي لأنصار الحوثي: يرابط على الجبل الأسود أحد ألوية الجيش. يطل الجبل على مدينة حرف سفيان، حيث دارت معارك عنيفة. في الجهة المقابلة للمعسكر على الجبل الاستراتيجي، فوهتا دبابتين مصوبتان نحو أي احتمالات مفاجئة.

كنا نعبر حدود التماس، حيث تنتهي كلياً كل ملامح سيطرة الدولة. تبدأ الطريق بالتآكل بعد مدينة حرف سفيان، معيقة السير. التوغل في ارض تخضع لسيطرة الحوثيين، تشكل نواة لما نسميه دولة داخل الدولة. كانت آثار الحرب الأخيرة مازالت تطبع المدينة بخرابها، بيوت مهدمة تعطي انطباعاً حول قسوة المعارك. عندما سألت أحدهم عن المكان الذي يسكن فيه أصحاب تلك البيوت. أجاب: أنهم يعيشون في غرفة أو غرفتين مازالت سليمة. كذلك خالد الذي يقدس حسين الحوثي، أكد لنا ذلك.

فجأة ظهرت الفتاة وقد نزعت خمارها، تسير حاملة الكاميرا، تصور مشاهد دمار الحرب، مفصحة عن هويتها. كانت مغربية، تعمل مصورة لقناة الجزيرة الانجليزية في اليمن. ارتدت النقاب حيطة من طبيعة المناطق التي سنعبرها.. من وراء تلك الانقاض وقف مواطنون مسلحون يهتفون شعار الحوثيين "الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لاسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للاسلام". كباراً وصغاراً يهتفون بحماسة. بقايا واجهات البيوت المهدمة محفورة بقذائف، ثقوب رصاص. علامات حرب مريعة، تنمو على أنقاضها راديكالية، شكلت خارطة سياسية عبر آلاف السنين، وحروب طويلة وقودها القبائل. خالد رجل يرتدي ملابس مهلهلة، وبقع سود في يده، هلالات سوداء حول أظافره الخشنة. ككل رفاقه يحمل سلاحاً، قال أنهم كانوا في الظلال، وخرجوا إلى النور. مصورون آخرون ينتمون لوكالات صحفية مختلفة، التقطوا شكل الخراب، وظلت الأًصوات المرتفعة بشعار الحوثي تهيج بين وقت وآخر.  كان خالد يبدو فصيحاً بالنسبة لرفاقه، جلس بجانبه مسلح مشدوهاً لحديثه بانبهار ساذج. قال: على الأمة الإسلامية إتباع حسين بدر الدين الحوثي (الزعيم الروحي للحوثيين ومؤسس الحركة، قبل وفاته عام 2004م، بعد نشوب أول حرب مع السلطات) لأنها ستخرج من الظلال، وستنتصر على أعدائها. ثم أضاف: "هذا الرجل يستحق أن نتبعه كالنبي محمد، لقد رفض مثله كل الإغراءات التي قُدمت له، من أجل هذه الأمة". بدت كلمات خالد مألوفة على لسانه، محفوظة من تكرارها، أو إعادتها.

ولاء مطلق
ظلت سيارة هيلوكس، تذهب وتعود في الشارع الذي يشق صفوف البيوت المخربة، محملة بميكرفون يلقي أحدهم نداء عبره، يوجه شعارات، دعوات، ربما للتعبئة، يلقي أناشيد إسلامية خاصة بالحوثيين. أحياناً ينظم شكل السير. يمكن رؤية جنود حكوميين برداء الجيش في سوق المدينة يشترون القات، أو أشياء أخرى بجانب أبناء القبائل. لقد انتهى الصراع لكنه مازال يثقل شكل المدينة، ويحمل كابوس الموت في أي لحظة. جاء مسلح يقود دراجة نارية، نادى خالد، قائلاً إن إحدى السيارات الخاصة بأصحابهم تحتاج إلى مساعدة. ودعنا بابتسامة لكنها أيضاً قد تصبح نذير موت في حال بررت عقيدته ذلك.

تابعنا الطريق نحو صعدة. على بعد أمتار من توقفنا في المدينة كان رجل بجانب سيارة تويوتا (طقم) يقف بلحية مرتبة، يلف كتفه بشال ذي مربعات، يلقي عبر ميكرفون، خطابات تعبئة دينية يوجهها الحوثيون خصوصاً مع المناسبة التي تشكل لجماعتهم حدثاً دينياً و قبل ذلك سياسياً عندما سألت القبائل المسلحة هناك ما إن كانوا سيغادرون إلى صعدة جميعاً، أجابوا: إن البعض سيبقى من أجل استقبال الضيوف. لكن في الحقيقة، هناك مهمة أخرى للمقاتلين من أجل حماية مداخل المدينة، من أي اعتداء محتمل، قد يستغله البعض مع انشغالهم.

أثناء الاحتفال في الساحة عند مدخل مطرة، على بعد ما يقارب 5 كليومترات من صعدة، كان أحد أتباع الحوثي، يشير بزهو نحو تجمع الأنصار وهم يرفعون أعلاماً خضراء كتب عليها "لبيك يارسول الله"، ويرددون شعارات "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل......." بين كل لحظة وأخرى، سألني: كيف ترى هذا الحشد. لم أرغب في إثارة جدل حول العدد المحتمل. قال: إنهم يشكلون فقط 5% من قوة الحوثي. وفسر لي، بأنهم يقاتلون في حجة، ومناطق صعدة، ويؤمنون الطرقات المسيطرين عليها. وبالطبع هناك مبالغات، فالمقاتلون الذين يخوضون تلك المهام، هم آلاف. تبدأ النقاط المهيمن عليها مقاتلو الحوثي. وبما أن المركبات تحمل شعاراتهم، كان مُرحباً بنا. بالتأكيد بدأت الشعارات تلوح أيضاً على الجدران المتهالكة منذ مدينة حرف سفيان. شعارات دينية، إحداها يطلب نذر الحياة والموت لله، من أجل الصدق مع رسوله. وبعضها تشير إلى إحياء مناسبة مولد النبي.

عند قاع عزيز، كانت هناك نقطة تفتيش. لم نشاهد أي أثر لمنزل الشيخ صغير بن عزيز، الذي أجبره المقاتلون الحوثيون بعد الحرب السادسة، على ترك منطقته، بعدها تم نسف منزله وتسويته مع التراب. بعض النقاط التفتيشية تحمل لوحة كتب عليها "الترتيبات الأمنية لكم وليست عليكم". كان أحد المشرفين يمتدح رجال القبائل التابعة للحوثي، والذين يلقي بعضهم التحية، ويقارنهم بالقبائل الأخرى، التي تصادفنا معهم على الطريق. كان يحاول إثارة كل شيء تنتسب للحوثي كوجه ذي قداسة. فعندما خرج الإطار على سيارة سوزوكي موديل 94، ملتصقاً بقضيب على مشارف صعدة، حال دون انزلاقه، والذي كان سيتسبب في انقلاب السيارة، أشار إلى أن الأمر قدرة إلهية، لأنه من أصحابهم.

تأخذ الطريق طابعاً مستوياً بعد حرف سفيان، امتداد قاحل، مبقع بأشجار سدر، وأشجار طلح صغيرة. وجوه متجهمة لمقاتلين، نقاط واضحة، وأخرى تفاجئك بجلوس مقاتل على صخرة بجانبها موسداً يديه على سلاحه. ينتمي المسلحون لمناطق قريبة من أماكن تواجدهم على الطريق. إستراتيجية الحوثي مبنية، على التواجد الاجتماعي الواسع لهم في المناطق المسيطرين عليها، وتحظى الحركة بولاء كامل من أتباعها. هكذا سيطروا على الطريق إلى صعدة، في الحرب الأخيرة، واستعصى على الحكومة فكها من قبضتهم. يتفاخر قيادات الحوثيين بهذا الولاء، لقد أشاروا لنا، إنه رغم الثأرات بين قبائل حرف سفيان وأولاد الأحمر، تركوا موكب حسين الاحمر حين زار صعدة، يسير بدون اعتداء، تكريماً لأمر عبدالملك الحوثي.

اختفاء قسري
لا يبدو أي تواجد للحكومة، حتى العلم الوطني، ذو الألوان الأحمر، الأبيض والأسود، لم يعد له تواجد، سوى في مواقع حكومية. تواجد شكلي وعلى استحياء، يمكن ملاحظته في وجوه الجنود الحكوميين. عند دخولنا صعدة أحد الجنود سئلنا، في إحدى النقطتين الخاصة بالحكومة: من أين أتيتم، فقط ليؤكد وجوده الرمزي. تثير ملامحهم التعاطف. لكن سرعان ما تبدأ النقاط الخاصة بالحوثيين. مسلحون يرتدون ملابس تقليدية، بملامح حازمة. يستمر إيقاع الشعارات، لكنه يزداد كثافة هنا، عبارات مختلفة، تتكرر بتفاوت. البعض يحيينا بابتسامة، لأننا محملون بمركبات تحمل شعارهم الخاص المعلن عن المناسبة، كانوا في العادة، بوجوه شابة جامدة، وقاسية. عبدالمجيد أحد المقاتلين المرافقين لنا، قال عمره واحد وعشرون، مع أنه بدا لي أصغر من ذلك. سماته الجامدة، أفصحت عن ابتسامة منقبضة، لا يعرف مستوى من الحديث واسعاً، غير صلته بالتوجيهات من رؤسائه. أجابني إنه حضر إحدى محاضرات حسين بدر الدين الحوثي، قبل وفاته. كيف كان سألته. أخفض رأسه، مغمضاً عينيه، وحرك يديه بتوتر عاطفي، كمن أثرت فيه شحنة انفعال هائلة. تلعثم في حديثه، لم يدر بأي وصف ينعته. عظيم، مفردة وجدها، وأراد إضافة أوصاف أخرى، لكنه كررها مجدداً، وابتسم بتوتر. ثم كان يرد على تحيتي له بابتسامة، أفسحت في ملامحه مساحة أخرى لوجهه. وجوه صغيرة تحيطها صرامة داكنة. ملامح مشدودة، واجمة، منقبضة، تثير نوع التعبئة التي يحرص عليها الزعماء الحوثيون بتلقين مقاتليه، نوع من الجاهزية المستمرة لخوض معارك محتملة. خلف تلك الوجوه، الشعارات، تلوح أيضاً مدينة تتداخل فيها معتقدات ورغبات، نمط حياة ربما يفرضه هذا التواجد. هناك حالة من التسليم بهيمنة جماعة دينية، تمارس وجودها من خلال رسم شكل المدينة بمقاسها، فرض الحياة على طريقتها.

دوريات تدور محملة بمسلحين، مرت إحداها أمامنا، طقم شاهدت فيه مقاتلاً أو اثنين لم يتجاوزا الخامسة عشرة. على الطريق السريع بعد تجاوز حرف سفيان، كنا نشاهد أطقماً قادمة بالاتجاه المعاكس، فيها مقاتلون يحملون أسلحة وبوازيك. مثل هذا المشهد يستمر في صعدة. أدوات تواصل لاسلكية يضعها على أحزمتهم مسئولي نقاط التفتيش، كذلك قيادات الحوثيين، هكذا دخل حفظ الله الشامي، يحمل جهازاً لاسلكياً على بطنه، إلى مجلس القات حيث استضافونا أول يوم. رأينا مصفحة تم الاستيلاء عليها من الحكومة. المعسكر الخاص بالجيش، منكمش في حدوده، لا تأثير له على القرار هنا. السلاح والعقيدة، يشكلان نسيجاً متحالفاً لترسيخ سيطرة كاملة. تعال وشاهد تجربة الحكم المحلية، قال لي المكلف بدعوة الإعلاميين إلى صعدة قبل أيام من سفرنا.

تمنحك الحركة انطباعاً بآلية يحاول الحوثي تكريسها باعتبارها دولة، كما هو في الجنوب اللبناني بالنسبة لحزب الله. كنا وصلنا بعد الواحدة ظهراً، ولم يلتحق البعض بصلاة الجمعة حسب رغبتهم. ذهبنا بعد ذلك، إلى الغداء، استضافنا فيه الشيخ محسن الخطيب. رحبوا بنا  بحفاوة يتسم بها أبناء المدينة. مع ذلك يعطي المكان انطباعاً بالعسكرة، كان المقاتلون يقدمون صحون الأكل دون نزع أسلحتهم. حتى أن أحدهم صدم رأسه بسلاح زميله، بينما كانا يقدمان الماء أثناء جلسة القات. قال أحد زملائي، إنهم يتداولون استقبال الضيوف، بين أنصارهم كل يوم في أحد المنازل. هكذا حين نزل وفد من الصحفيين والناشطين صعدة لإطلاعهم على الأوضاع في دماج، خلال الصراع بينهم والسلفيين هناك.

استراتيجية الحوثي
مجلس القات مستطيل، بطول عشرة أمتار تقريباً وعرض أربعة. بعد ساعة جاء أحد قيادات الحوثيين حفظ الله الحوثي، عضو المكتب السياسي للحركة، يتبعه ثلاثة مسلحين. بعد ترحيبه بنا، بدأ الحديث حول جماعته. كان يجيب على أسئلتنا، ويحاول تجنب بعضها. جماعة الحوثي صارت قوة عسكرية في أقصى الشمال اليمني، وتريد أن تفرض أجندة سياسية لها في المستقبل، هكذا تُفسر الحروب التي تخوضها في حجة من أجل التوسع، إنها طريقة كلاسيكية في دولة الأئمة منذ أكثر من ألف عام. قريباً سيتم سفلتة طريق آخر بين صعدة وصنعاء لا يمر عبر حاشد، على حساب السيد عبدالملك الحوثي قال الشامي باعتزاز. وكما عبر، تمتلك الحركة شركة إنشاءات تخصها اسمها (جهاد البناء). تمتلك معدات، كان مقاتلو الحوثي نهبوها من الحكومة خلال معاركهم في السابق، أو اغتنموها كما عبر الشامي. بالتأكيد تحتاج مثل تلك الطريق إلى عشرات الملايين من الدولارات، والتي تزيد عن مئتي كيلو متر، ستمر عبر منطقة أرحب حتى مطار صنعاء،. حين سألت حفظ الله الشامي، عن الدعم الإيراني. قال أنه لا يوجد أي دعم من طهران. مشيراً أن المخابرات الامريكية، حاولت اتهامهم لكنها لم تحصل على أي أدلة أو وثائق تؤكد ذلك.

يقول الشامي إن جماعته توفر احتياجاتها المالية، بالتعاون بين الأنصار. يتم تجميع الأموال اللازمة عبر التبرعات، "كل شخص يعطي حسب قدرته". لكن إنشاء طريق استراتيجي آخر يمدهم بصنعاء، بعيداً عن ضغط قبائل حاشد، يحتاج إلى تمويل ليس بإمكان التبرعات توفيرها. وبينما تلكأ الشامي، أدركه أحد الإعلاميين المتعاطفين مع الحركة، موضحاً أن منطقة صعدة غنية بالزراعة، ويمكنها توفير مبالغ كبيرة. هل يعني هذا أن الحوثيين يجبون ضرائب من المواطنين، أيد الشامي الإجابة، لكنه صرح أن المشروع سيكون على حساب عبدالملك الحوثي، وليس الحكم المحلي في صعدة. وسيكلف مشروع كهذا عشرات الملايين من الدولارات، ولا يمكن تمويله فقط من إيرادات صعدة، وبالنسبة لحجم الأضرار التي تعرضت لها المحافظة عبر الحروب، هناك أولويات كثيرة.

نفى الشامي منزعجاً من سؤال وجهه أحد الصحافيين ما إن كانوا يأخذون الخُمس (20%) من الدخل. قال أن من يقومون بذلك هم الاثنى عشرية في إيران. في الوقت نفسه، كان ينفي أيضاً اتهامات تنسبهم إلى الاثني عشرية. يعتبر تياراً داخل الزيدية في صعدة، يقودهم محمد عبدالعظيم الحوثي أن جماعة (الشباب المؤمن، أو المسيرة) التي أسسها حسين بدر الدين الحوثي، خرجوا عن الزيدية، وأنهم أقرب للاثني عشرية الايرانية. حدثت بين الطرفين مواجهات أسفرت عن قتلى، نجحت مساعي مراجع زيدية في التهدئة، لكنها لم تنجح في تقاربهم.

ملامح الدولة
للحوثيين مشروع يتعدى الاقتصار على مجرد حركة مسلحة، هل يريدون إحياء دولة الائمة، كما يتهمهم البعض، التي انتهت بعد ثورة 26 سبتمبر 1962. بحسب الشامي، حركتهم تمتلك مصانع أدوية، أكد لنا أنها تنتج، لم يحدد كم عددها، لم يعرض علينا ما تنتجه. ربما كانت مشاريع تحت الإنشاء، قال أنها مصانع صغيرة، ربما كانت معامل صغيرة. هل يريد الحوثي تأمين احتياجاته لمواجهة أي حصار قد يفرض عليه في المستقبل. ما نوع الخبراء الذين يعتمد عليهم. قال أنهم يريدون أيضاً متعلمين للاعتماد عليهم في المستقبل، وأشار بنوع من الحلم، حتى في صناعة الطائرات. كان يعرف أن الأمر ليس سهلاً. ثم أضاف أنهم يخططون لزراعة القمح في الجوف وصعدة. ثم بمبالغة غير مدروسة قال "ستكتفي اليمن مما نزرعه". يحتاج الأمر لبنية تحتيه، كبناء سدود وليس لحديث خيالي في لحظة نشوة قات. لكن الشامي يتمسك بتوكل ديني محض: نحن سنزرع ونتكل على الله، وهو سيمنحنا المطر. ليس الأمر بتلك البساطة، حتى قيادات الحوثي تدرك ذلك، لكنه ربما نوع من استراتيجية تواجدهم حتى لو كان مد أنصارهم بمشاريع وهمية. مع هذا ربما لديهم مخطط واقعي لتأمين احتياجاتهم الغذائية والطبية في سياق مواجهاتهم الحربية. ثم هناك تأمين طريق إلى المركز، لا يربطهم بأعدائهم. هناك إحساس كبير لديهم بوجود محيط معاد، سوى من وراء الحدود الممثل بالمملكة العربية السعودية، أو من الداخل. لم يكن الأمر مجرد خيارات أملتها الحرب، بل نشوء قوة تحاول استعادة مشروع الدولة التي حكمت اليمن وتمددت وتضاءلت حسب الظروف السياسية، وكانت تُعلن بظهور إمام، واختفاء آخر. فهل عبدالملك الحوثي إمام غير معلن. ربما، لكن طبيعة العصر تفترض مسميات أقل وطأة.

تستخدم الحركة مولدات كهربائية كانوا استولوا عليها من المعسكرات الحكومية، لمد مناطق من صعدة بالكهرباء. وتقوم لجان حوثية بتحصيل رسوم الكهرباء من المواطنين. سيخبرنا المحافظ في مؤتمر صحفي أنه منذ تسلمهم المحافظة، تم رفع الطاقة الكهربائية من 3 ميجا، إلى 6 ميجا وات. حسب أحد القيادات العسكرية في الجيش المرابط بصعدة، قال أن الحركة تريد إعطاء صورة ايجابية عنها. تم فرض قانون من الحوثي بتحديد 5 آلاف ريال كغرامة لأي مواطن يطلق رصاص.

يريد الحوثيون خلق صورة اعلامية ايجابية، وهم يسعون لامتلاك جهاز إعلامهم الخاص. قارن أحد زملائنا، بين نجاعتهم الإعلامية خلال الحرب، وبين ضعفهم خلال الفترة الماضية. أشار الشامي إلى نوع الحدث. كانت الحرب تجعل رسالتهم سهلة، أما الآن لديهم قنوات محدودة. عرض علينا هاشم شرف الدين الاعلامي المسئول عن تنظيم الرحلة، ميكرفوناً عليه شعار (المسيرة)، وهي قناة فضائية خاصة بالحركة. أطلق حسين بدر الدين الحوثي اسم المسيرة على الحركة عندما أسسها، وصارت تعرف بالحوثيين نسبةً له.

استنفار أمني
كانت سيارة تسبقنا، وتتفاهم مع النقاط التفتيشية، لتأكيد هويتنا. إجراءات أمنية مشددة، لمنع أي هجمات. تم توزيع عدد من القوات حول صعدة، مسلحون موزعون على نقاط التفتيش، على الطرقات، مسلحون على دراجات نارية، واطقم عسكرية منتشرة لحراسة المواكب وعلى الشوارع. شعارات حوثية، أعلام خضراء. قبل أن نذهب وزعوا علينا تعليمات، تطلب منا عدم اصطحاب أي أسلحة، أو متفجرات. كانت رسالة موجهة لضيوف، ينتمي معظمهم لجهات قبلية. بالنسبة لنا كان الأمر مضحكاً، ليس بحوزتنا سوى ملابس، أقلام، كاميرات، دفاتر، أشياء اعتيادية. مع ذلك، مُنعنا من اصطحاب أقلامنا ودفاترنا. طلبوا منا ترك الساعات، أو الخواتم. أحد زملائنا رفض وضع دبلة زواجه. الصحافيون سلموا كاميراتهم في عهدة اللجنة الخاصة بالتنظيم، وسيسترجعونها في ساحة الاحتفال. تستقبل المدينة وفوداً من مدن عديدة، وكان على الحوثيين تأمينها من أي هجمات. تعرض العام الماضي احتفالهم في يوم عاشوراء إلى هجوم انتحاري أودى بعدد من القتلى.

عند مدخل مطرة، كنا بين أول الداخلين الساحة. منطقة شهدت معارك كبيرة. واحدة من المقولات إن عبدالملك الحوثي، يعيش غالباً وسط الجبال خصوصاً في مطرة، تحوطاً من استهدافه. مكان تواجده محاط بالسرية، يتغير باستمرار.

دخلت السيارات منطقة رملية واسعة، مبقعة بأشجار طلح صغيرة، خصص لها موقف رملي بالقرب من الساحة المخصصة للاحتفالات. كان علينا السير لأمتار، حيث يصطف عشرات بخط متعرج بطول يزيد عن أربعين متراً، ملتصقين ببعضهم، يرتدون أثواباً ناصعة البياض، وسترة سوداء، يلفون رؤوسهم بمناديل كتب عليها شعارات حوثية. كل شخص منا، يعبر مدخل تشكله قائمتان حديديتان نحيفتان، بعرض يكفي بالكاد لمرور شخص، ومرفوعة بأكثر من متر. في المقابل يتكفل كل شاب مقابل الممر بتفتيش دقيق للعابر؛ يبدأ بتحسس الرأس، وتمرير يديه على الياقات، تحسس معظم أجزاء الجسد. يقوم بخلع الأحذية، وجس الأقدام. صورة تكشف شكل الإجراءات الأمنية. في الواقع، هناك حالة توجس شديدة لدى الحوثيين، الشعور بتواجدهم في محيط من الأعداء. إنه أيضاً نوع من انشداد عصبي يضعهم في حالة تعبئة.

السياسي في ثوب الديني القديم
حدثني سياسي من مواطني تعز، ينتمي لتيار قومي، عن تفاجئه بقدرتهم على تنظيم فعالية بهذا الحضور والتكفل باحتياجاتهم. ما يعني أن الحوثي لديه إمكانيات وقدرات تنظيمية عالية، علق وهو يجلس في مكان من الخيمة لتناول القات، فيما الاحتفال يوشك على البداية، إنه في الواقع ليس احتفالاً بمعنى الكلمة، مجرد إلقاء أشعار وخطابات. المدينة استقبلت آلافاً جاءوا من مناطق مختلفة. وجهت الحركة دعوة لعدد من الشخصيات السياسية والوجاهات. أعضاء مجلس نواب حضروا، قيادات حزبية، مشائخ، ينتمون لمناطق متعددة...... دعا الحوثيون سياسيين من أطياف متعددة. ربما كمحاولة لاعلان حجمهم أمام الآخرين من جهة، وصنع استقطابات من جهة أخرى. لذا كان على المشهد أن يكون محفوفاً بحشد جماهيري.

سياج جبال يحيط الساحة، كانت المربعات مازالت فارغة، وسيبدأ التوافد من الأنصار. جلسنا في خيام معمولة لكبار الضيوف. مربعات تشكلها أنابيب مغروزة ترش رذاذ ماء، لتلطيف الاجواء. أحدهم قال لي برضا تعال لتر هذا الإبداع، "إنه من صنع الحوثيين". بعد الغداء بدأ الأنصار بالتوافد، أفواج تأتي من ناحية مطرة، يرفعون أعلاماً خضراء، ويعصبون رؤوسهم بمناديل مكتوب عليها شعار الموت لأمريكا وإسرائيل.

كانت الحمامات عبارة عن قفص بطول قامة، من الخيم الخاصة بالنازحين في صعدة، مطبوع عليها (اليونيسف) متراصة بقرب بعضها، موضوعة على حفر، مغطاة بصفيحة حديدية مستطيلة مثقوبة في النصف على هيئة نقرة. ذكرني الأمر بفيلم سلومدوج مليونير، عندما قفز الصبي اسفل وخرج، مغموساً ليحظى بتوقيع اميتاب باتشن اسطورة السينما الهندية. بينما كنت مرعوباً وانا اشعر باهتزاز الوصلة، كما أنه لم يكن هناك على الأقل اسطورة سينما، ولم يكن هناك مخرج أيضاً.

عند عودتي كان الإعلان عن ظهور عبدالملك الحوثي لإلقاء خطبة. ألقاها بطريقة الفقهاء القدماء؛ علو وانخفاض صوتي رتيب، ذبذبة إيقاعية متساوية الأطوال. بدأه بإطناب، وخطاب ديني محض. كانت الأصوات الملقاة بشعار الموت لأمريكا وإسرائيل، تتخلل خطاب الحوثي. أصوات تحيطنا بصخب. أخذ خطابه شقين ديني وسياسي، كما حمل الحدث نفس البعدين.

بعد إطناب مستطرد، كان الشق السياسي في الخطاب، هو الجزء المهم لتواجدنا. عندما صعد الحوثي وبدأ خطابه بطريقة تقليدية، كان الصدى يجعل كلماته غير واضحة. تساءلنا إن كانت خطبة مسجلة. وبدأنا نحاول النهوض قليلاً لتبين المنصة، فيما وراءنا تطلب الأصوات الجلوس بصرامة. كان يلقي خطابه من ورقة. في المقابل يحميه زجاج مضاد للرصاص على طريقة حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني. وهو جزء من اللعبة؛ الإيحاء بالاستهداف الأمريكي له. المشهد كان استعراضاً لحجم قاعدته الشعبية. وربما كان حضورنا جزءاً من ذلك.

قبضة بوليسية وفتاوى
لم يعد هناك محلات تبيع الأغاني في صعدة، أُغلقت منذ دخلها الحوثيون. حين سئلت لطف الشرقي، عن رغبتي بشراء كاسيت أغان، لاح انزعاج على ملامحه. لماذا، سألني. لكني تابعت إلحاحي. "يمكنك شراء أناشيد". الناس هنا لا يستمعون للاغاني. بنفس الطريقة أجاب جاسم الخطيب؛ المجتمع محافظ في صعدة. "اشتري من بلدك" قال مبتسماً. كانت الإجابات تعكس أيضا نوع الإملاء الذي تمارسه الجماعة الحوثية على صعدة؛ تقرر أن كل شخص هنا لا يستمع للأغاني، لإخفاء نزوة التحريم. هكذا فعلت أيضاً طالبان حرمت الموسيقى والأغاني، مع ذلك يجيب أنصارها إنها محرمة. يشبه الأمر مطالبتهم بالدولة المدنية، شكل الابتزاز الملفق لمعاني لا تمت للواقع بصلة. قبل دخول الحوثيين كان يمكن إيجاد محلات تبيع الأغاني. أخبرنا شخص عن صعوبة الاستماع للاغاني حتى في المنازل، فالنساء الحوثيات اذا طارت نغمة من منزل، يدخلن ويطلبن من سيدات الدار اغلاقها.

ظهرت فتوى لعبد الملك الحوثي تحرم ركوب الدراجة النارية خلف السائق بفخذين منفرجين، فهذا يعني تلامساً خادشاً من وجهة نظرهم. يمكن ركوب الدراجات النارية بوضع جانبي. لا يختلف الأمر عن ما تقوم به كل الجماعات الدينية المنغلقة. فعندما دخل الحوثيون صعدة، نسفوا فندقاً يتبع الشيخ عثمان مجلي، وزعموا انه كان يبيع الخمور، ومن وراء ذلك صراع مصالح، تلوح في شكل أعمال خفية.

لا يجرؤ أحد، على انتقاد الحوثي، جماعته تؤكد قبضتها على صعدة، بتحركات أمنية مستمرة. هناك سجون خاصة، يقوم الحوثيون باعتقال كل من يعارضهم لتأكيد سلطة كلية. مازال عشرات الآلاف هاربين من المدينة، خوفاً من التنكيل بهم من اتباع الحوثي، بسبب مشاركتهم في الحرب ضدهم.

تكافل
هل يقتصر الأمر فقط على التكافل كما يقول الحوثيون. يكرر صلاح الخولاني، وهو ينتمي لخولان بني عامر ضمن أعمال صعدة، بأنه في حال تطلب الأمر كل شخص من المؤمنين يدفع حسب قدرته. مع ذلك، فتكاليف الاحتفال كبيرة. مارس الحوثي سلطته على السكان للمشاركة. كل أسرة دفعت خمسة آلاف ريال، كما تم خصم 3000 ريال على كل موظف من رواتبهم، بحسب معلومات صحفية، ومن لم يدفع يعتبر عدو رسول الله. أما المحلات فرضوا عليهم دفع 5000 آلاف ريال بالنسبة للأعمال الصغيرة مثل البوفيهات والمطاعم، أما تجار الجملة تضاعف المبلغ إلى 10000 ريال، كما اجبر كبار التجار على دفع مبالغ اكبر. وهذا قد يكون نوعاً من التكافل، بما أن صعدة بنظر الحوثي، كلها مجبرة على أن تصبح حوثية، كما أنها مجبرة على ترك الغناء.

حاول المقاتل صلاح، مرافقنا بعد العودة من الاحتفال، إثارة الحديث بالانجليزي. يريد استرجاع ما تعلمه في كلية التربية بصعدة- قسم الانجليزي. لكنه الآن يحمل السلاح. قال إنهم يريدون السلم. الجيش الحكومي دفعهم للقتال إلى جانب الحوثي، بعد أن تعرضت بيوتهم للضرب وذهب عدد من أقاربه كضحايا، بنيران الحكومة. مقاتلون يهبون كل وقتهم وحياتهم للحوثي، وبما أنهم مجاهدون في سبيل الله، لا يقبضون أي رواتب، إن عملهم تلبية لنداء الله ورسوله، فقط تتكفل الحركة بطعامهم وشرابهم، إضافة إلى القات.

حارة اليهود
قال أحد سكان المدينة خاف من ذكر اسمه؛ إن مجلي كان يحمي اليهود. سبق لصديق قابلته عند بوابة المدينة القديمة (باب اليمن)، قال ان سيدة عجوزاً أخبرته عن اليهود، كناس كانوا متعاشرين وطيبين. حارة الدوار حيث عاشوا جنباً إلى جنب مع المسلمين. دلنا احد الباعة عن الوجهة. في الطريق التقينا بشاب يمضي ممسكا بيد رفيقه. تحدث بصوت منفعل، كانوا يمنيين مثلنا، قال. كان يبدو عليه الامتعاض من المشهد في مدينته. طلب مني أن أروي عن ما رأيته بصدق.

وصلنا حي الدوار. أشار الشاب نحو أحد البيوت المتهدمة هذا بيت حمامة، كانت زوجة الحاخام في المدينة. وصفها: كانت طيبة. مع دخولنا الحي نادى باسمها. وجودي ببنطلون جينز، يثير الشكوك حول إن كنت من جهة إعادة الاعمار، القضية التي تشغل السكان المتهدمة بيوتهم. اقبلت المرأة تغطي وجهها بستار أسود. "جاء يسأل عن حمامة" قال لها الشاب، بينما كانت تشكو تجاهل هيئة (إعادة الاعمار) لهم. "حمامة في لندن.. مرتاحة هناك" قالت المرأة بلكنة أهل المدينة، وتراجعت حين لم أكن الشخص المرجو. كان اليهود يعيشون باطمئنان، لكن الخوف بدأ مع نهاية التسعينيات، حين بدأت أصوات أصولية تنبت في المدينة وتضايقهم. في الفترة الأخيرة لم يكن سكان البيت يغادرون المسكن، كان بامكانهم جلب الماء عبر بكرة ترتبط بالبئر المقابل للبيت. بعد رحيل اليهود، قام المتعصبون بهدم بيت حمامة. هكذا طوت المدينة قصة جذورها طويلة، عن اليهود.

خطاب مزدوج
لا يعترف الحوثيون بأن حروبهم في حجة توسعية. يقول أحدهم، إن حجة هي في الأصل منطقة زيدية. يضيف؛ يمكننا اتهام الحوثي بالتوسع في مناطق مثل إب أو عدن أما تواجده هناك ليس توسعياً يسرد الشامي قصة مستهلكة عن حروب حجة، تشبه حكايات الدعاة المثالية. وهي أن مقاتلين حوثيين من ابناء حجة عادوا بعد سنوات إلى بيوتهم بعد قتالهم في صعدة، بدأ الأهالي، كما أضاف وهو يلتفت في جميع الأنحاء، ينضمون للحوثيين بصورة واسعة بعد تأثرهم من حكايات المقاتلين العائدين. كان يتحدث بانفعال، ويحرك يديه بصورة واسعة للاحاطة بالمشهد، وحين يرن هاتفه يلقيه نحو مساعده للإجابة. انزعج التيار المعادي لهم، كما قال، وطلبوا من الحوثيين، أن يتركوا المنطقة، خوفاً من توسعهم، بعد أن شاهدوا الإقبال الكبير عليها، مع أنها بيوتهم. توقفت حركة يديه، صمت لبرهة، ثم بحركة انفعالية قال؛ إن ابناء المنطقة قرروا الدفاع عنهم. ألا تشبه حكايات الرهبان الاتقياء.

هل الحوثي يرغب في استعادة المنطقة الزيدية. يعتبر شرف الدين أن قتاله في مناطق ليس توسعياً، بينما يمكن اعتباره توسعي في مناطق أخرى. تفسيراً يعكس خطاب الحوثي المزدوج. يقول الشامي، انهم يقبلون اي اتجاه ديني، سني أو زيدي. بالطبع يتفهم الحوثي طبيعة تواجده السياسي الآن، وحجم منافسيه. يريد تقديم خطاب ملائم لتحركاته السياسية خارج صعدة. مع هذا لا يفرط أبداً في الإطار المذهبي. فعندما سألتهم عن حكاية تقول إن الإمام يحيى، صلى في إحدى المرات ضاماً يديه على الطريقة السنية، وليس مسربلاً كما في الزيدية. تقدم القصة وجه متسامحاً وسياسياً للإمام، فهو يحكم مجتمعاً معظمه سني. تبدو القصة حقاً ملفقة، لكن بصرف النظر عن وقوعها أم لا، فقد حفرت سحابة استياء وجه الشامي، ومحيطيه، مثيرة الوجه المتصلب وغير المتهاون مع التفاصيل الفقهية. أبداً لم تحدث، أجاب وقد لاح عليه الانزعاج.

حضور مزدوج للحوثي؛ يتبنى من جهة خطاب سياسي، يحاول عبره اكتساب شكل وطني، بناء تحالفات يراهن على استقطاب تحالفات سياسية في مناطق لا تقع ضمن خارطته الفقهية. في الوقت نفسه لا يتخلى عن توجهه الحربي داخل المناطق الزيدية، كما في صعدة، الجوف، وحجة. خطاب للتداول السياسي، وآخر لتعبئة مقاتليه.

يلعب الحوثي على تضارب الاتجاهات لبناء تحالفاته. يريد اكتساب إطار وطني، إلا أننا لم نر في محيط تواجده علماً مرفوعاً لليمن. أثناء الاحتفال، كان الجميع يرفع شعارات، ورايات خضراء فقط. لقد اختفى الشكل الرمزي للوطن، واستبدل بشعارات دينية.

وجه تخفيه شعارات
كنا في صعدة نسمع من طرف واحد. الأصوات الأخرى الخائفة تهمس غير راضية رسائل مبطنة. عندما يسمع احد سكان المدينة لكنتك مختلفة يبدأ في التحدث، أحدهم تحدث دون أن يفصح عن اسمه، إن الحوثيين فرضوا على كل أسرة إحضار أحد شبابها. وفي الساحة رأيت أحدهم كان ينتمي لقبيلة الشيخ عثمان مجلي، المتحالف مع الحكومة ضد الحوثيين.

كانت الشعارات تسبح في كل مكان وفي كل وقت، داخل صحن الامام الهادي تكتظ مع تجمعات تعلي ايادي بحماسة. هناك اضرحة أئمة، مكتوب عليها أسماء أصحابها، ونقوش على الجدران ليست محكمة، على طريقة النقوش الاسلامية في القرون الوسطى. أما ضريح الإمام الهادي فيكتظ بازدحام رهيب. صار يأخذ بعداً تقديسياً لمعتنقي الحركة الحوثية. كومة من التراب تظل تعلو الضريح، ويشاع انها تضمخ بعطر رباني تكريماً لصاحب الضريح. يغترف الناس ملء قبضاتهم منها للتبرك. كانوا يخرجون ويرددون نفس الشعار. يلوح على الجامع طلاء ابيض يشوه أصالته. يعتقد الحوثيون انهم زينوا الجامع الذي يعود بنائه إلى مئات السنين. تشبه الصورة صعدة برمتها التي يحجبها رنين من الشعارات القاسية. ومن خلفها لم نعد نرى سوى صورة واحدة.

ومن وراء الصورة المكبلة بالشعارات، تتدارى صورة أخرى أكثر قتامة. حارة الدرب تعرضت لأقسى انواع الهدم، اننا نفقد واحدة من المدن النادرة والتاريخية. حين سألت شخصاً عن ميدان منخفض بصورة دائرية، في صعدة القديمة، أجاب بامتعاض: سور. كررت له، عن الميدان الغارق كحلبة رومانية، وعليه ثلاث أو أربع شجرات نخل. كرر بنفس امتعاضه ولا مبالاته؛ سور. لم يكن يعبر الوجه عن ‑ارتياح. كان يعكس على صفحة وجهه صعدة مختلفة عن التي يظهرها الحوثي. ليست تلك الملامح الجامدة، او المبتسمة بانصياع ساذج، وبقناعة أنهم محاربو رسول الله.

ابن رسول الله
فرض أتباع الحوثي على تجار صعدة، تعليق يافطات قماشية، ترحب بضيوف رسول الله، كتب عليها تهان للسيد عبدالملك الحوثي، تم تعريفه في بعضها بابن رسول الله.. تذكرت أول يوم دخل علينا رجل في بيت مضيفنا، "أهلاً بضيوف رسول الله" قال بابتسامة تعبر عن رضاه الكامل. كل شيء يريد الإيحاء لنا، كأننا في حضرة رسول الله، عبر شخصية الحوثي التي تمثله. فقط واحدة من تلك اليافطات كانت تهنئ الأمة الاسلامية والعربية، وليس عبدالملك الحوثي، وموقعة باسم جامعة مجد الدين المؤيدي، يدير الجامعة محمد عبدالعظيم الحوثي، وهم فصيل يختلف مع الحوثيين بصورة جوهرية في مسائل الفقه الزيدي. حدثت بين الطرفين عدة مواجهات، لكن مرجعيات زيدية تدخلت، لفض الاشتباك، لكنها لم تضمد جروح نزاعاتهما سوى الفقهية، أو الحربية.

تضخيم الصورة
فجأة قال منظم رحلتنا من صنعاء، إنه لم يشاهد مثل هذا النجاح في التنظيم، سوى في خليجي عشرين. بدأت آلة التضخيم تعمل منذ الساعات الأولى لانتهاء الحفل. كان الأمر ملفتاً مقارنة بإمكانية جماعة تحاول امتلاك أدوات دولة، هذا فقط مستوى نجاحه.

تستمر هذه الآلة التضخيمية في العمل لتضخيم عشرات الآلاف، أو مئة الف، كحضور مليوني. أضاف المنظم: هذا الحضور لم تشهده اليمن في تاريخها. يستطيع الحوثي معرفة تقريبية لحجم الحضور عبر الرايات الخضراء التي وزعوها. تقول المعلومات إنهم طبعوا في حدود 150 ألف راية، كثير من الرايات تم توزيعها خارج الاحتفال. منذ البداية أشاع الحوثيون أن الحضور سيكون مليونياً. التقيت شاباً في سوق صعدة القديمة اليوم التالي. سألني كم اقدر عدد الحاضرين، أخبرته إنهم ما يقارب مئة الف. اجابتي كانت مخيبة له، ربما جعلتني بنظره عدو. أجاب بتصلب إنهم مليون، "لقد أحصيناهم، كتبنا أسماءهم" أضاف بإلحاح كأنه يدافع عن عقيدة. يحاول الحوثي بناء صورة لقوته حتى عبر التضخيم، فالمرحلة القادمة ستكون مشبعة ببناء تحالفات جديدة.

تهميش واستبدال
منذ سقطت صعدة في يد الحوثيين، تم تنصيب فارس مناع تاجر السلاح الشهير، كمحافظ لصعدة، لاعطاء طابع حكم محلي. أحد وكلائه ويدعى ابو علي الحاكم، يقول البعض انه الرجل الأقوى في المحافظة، وهو ممثل الحوثيين هناك. في الواقع تحدث تغييرات داخل مراكز القوى، فالحوثيون وضعوا وكيلاً آخر بجانبه، توزعت بينهما المهام. في الشق الآخر يرى البعض أن قيادات حوثية تم تهميشها، آخرها محمد عبدالسلام المتحدث باسم مكتب عبدالملك الحوثي. قبل سنوات، تم أيضاً تهميش قيادي بارز، ويعتبر الرفيق الأبرز لحسين بدر الدين الحوثي، وهو عبدالملك الرزامي الذي صار يمثل توجهاً آخر داخل الحوثيين، ومن ورائه قبائل الرزامات في صعدة. كذلك الأمر بالنسبة لقائدهم في الجوف عبدة ناجي أبو رأس.

صراع مصالح
أكد لنا ضيف الله الشامي، أن جماعتهم قيضت تجارة المخدرات، بمنع قوافل التهريب التي تعبر صعدة إلى الخارج. اتهم كذلك السلفيين بالقتال من أجل مصالح تضررت من ذلك. من جهة اخرى يتهمهم السلفيون واعداؤهم أيضاً بالتورط في تلك التجارة المحرمة. هل كانت ايضا حروب صعدة، تجري من ورائها صراع مصالح، تجارة مخدرات وأسلحة. قال الشامي أن واجهات حكومية كبيرة متورطة في تلك التجارة. لكن اين يقف الحوثي من اللعبة، ما هي خريطة مصالحه. أو إنها مجرد اتهامات متبادلة. لكن نحن نعرف عن وجود تلك التجارة، وعن تنافس تجار ووجاهات، بعضها تهشم دورها، والبعض مازال حضوره واضح.

كان الطريق مفتوحاً لمغادرتنا، وكانت الشعارات تستقر بتجهم هنا وهناك، نخلف مدينة انهكتها ست حروب، وتنهكها الآن قبضة دينية لا تتسامح مع أي شكل يستفزها. وقد يهددها صراعات مستقبلية، اذا اعتقد الحوثي أن القوة هي شكل هيمنته. غادرنا تتزاحم صور الشعارات، الاصوات المغلفة بالدوغما. كان الوجه الهزلي، دعوة عبدالملك الحوثي بدولة مدنية، أو أنصاره، بينما كنا نرى مملكة مغلفة بحكم ديني، تجعل كل مختلف عدو "رسول الله".. وهو الوجه الهزلي الذي تتنافس عليه كل الوجوه السياسية، المبطنة بقوات غير نظامية، قبلية وايدلوجية. مشائخ، قادة عسكريين، يثقلون بلداً منهكاً.

*المصدر: صحيفة الجمهورية
شارك الخبر