في خطابه قبل الأخير تحدث علي عبدالله صالح عن ما وصفه بانتصارات قواته في ميدي ومأرب والجوف ومناطق أخرى يخوض فيها الجيش الوطني مسنودا بالمقاومة الشعبية وقوات التحالف العربي معارك مع ميليشيات صالح والحوثي، لكن صالح لم يتطرق إلى المعارك الدائرة في منطقة نهم، البوابة الشرقية لصنعاء وأكبر مديريات المحافظة جغرافيا، ويتقدم فيها الجيش والمقاومة منذ أسابيع.
تقع مديرية نهم شمال شرق العاصمة صنعاء، يحدها شمالا الجوف وحرف سفيان بمحافظة عمران، شرقا مأرب، جنوبا مديريتي بني حشيش وخولان صنعاء، ومن الغرب مديرية أرحـب. مساحتها الجغرافية (1.841 كم²) وسكانها (41.502 نسمة) وفقا لآخر إحصاء حكومي في 2004م. تشكل المديرية بجبالها المرتفعة وتضاريسها الوعرة نهاية القيعان وبداية الهضاب.
في ديسمبر الفائت تمكن الجيش والمقاومة من اختراق أولى جدران الطوق الجبلي والحزام الأمني لصنعاء، لتكون بداية لانتقال المعركة من أدنى الصحراء إلى أعلى الجبل. استعادت المقاومة يومئذ سلسلة جبال صلب في الجزء الجنوبي الشرقي لنهم، المديرية، ووضعت أقدامها على أرض صنعاء.
في السفح الشمالي للجبل، وله نصيبا وفيرا من اسمه، يقع منجم الرضراض، وهو منجم قديم للفضة ذكره المؤرخ "الهمداني" في كتابه "الجوهرتين العتيقتين من الذهب والفضة" واصفا المنجم بأنه "لا نظير له.. كان منجماً غزير الإنتاج لا يضاهيه منجم آخر في اليمن". في ثاني قرن للهجرة النبوية كان المنجم ينتج في الأسبوع حمل جمل من الفضة، كان يقدم إليه تجار من العراق وفارس ومصر. ويعرف حاليا بمنجم الذهب يشارك النجل الأكبر لعلي صالح (أحمد) في شركة التنقيب التي تحيط عملها السرية بعيدا عن بنود الموازنة العامة للدولة.
على قمة مرتفعة تقع "فرضة نهم" يمر من بين جبالها طريق إسفلتي يربط صنعاء، العاصمة والمحافظة، بمحافظتي مأرب والجوف ومحافظات الشرق، عند هذا الموقع الشهير تتقاطع المحافظات الثلاث، ومن هنا يكتسب الموقع أهميته الاستراتيجية والتاريخية.
في مراحل مختلفة من تاريخ اليمن القديم كانت "فرضة نهم" جدار الصد للتقدم نحو صنعاء، مع الاعتبار هنا بأن نقل المعركة من الصحراء صعودا إلى أعلى الجبل حيث يتمركز العدو مغامرة وانتحارا بمفاهيم العلوم العسكرية. حين يكون عدوك من فوقك يمكنه ضرب رأسك رميا بالحجارة والصخور المتدحرجة.
في العام الـ25 قبل الميلاد فشلت الحملة الرومانية بجيشها العرمرم الذي أرسله القيصر لاحتلال صنعاء بقيادة جالليوس في تجاوز الفرضة، ونجح الحميريون في هزيمة الحملة وقتل العدد الكبير من جنودها ومات آخرون في الصحراء ونجا القليل منهم فروا إلى الحديدة وعادوا إلى بلادهم بحرا.
في ستينات القرن الماضي فشلت القوات الملكية التابعة للإمام البدر في اجتياز نقيل الفرضة والتقدم نحو صنعاء أثناء المعارك العنيفة التي خاضتها مع قوات الجمهورية التي أطاحت بعقود من الحكم الإمامي.
2011 و2016
في أعلى الفرضة يقع معسكر تابع لقوات الحرس الجمهوري التابعة لصالح، تتبع المعسكر نقطة عسكرية ومخزنا لتأمين السلاح وتحصينات مشرفة على الطريق وخنادق.
في 2011 بدأ صالح تحريك قواته لضرب شباب الثورة السلمية التي اندلعت ضد نظامه في 11 فبراير، كانت قواته المتمركزة في نهم ومناطق الطوق على رأس خياراته، أدركت القبائل والجيش المناصر للثورة أهمية ذلك. في الـ27 من مايو 2011 سيطرت القبائل الثائرة على معسكر وموقع الفرضة ومعها نقيل بن غيلان لتخرج بوابة صنعاء الشرقية من سيطرة صالح، باتت قواته محاصرة غير قادرة على الحركة وسلاحها صار بيد الثوار.
في خطاباته قلما يفوت صالح تهديد معارضيه بالفرضة والنقيل، في منتصف 2014م كان صالح يستقبل مهنئيه بالنجاة من حادثة "النفق" الشهيرة، وبين ما قاله "هم لا يعرفون فرضة نهم ونقيل بن غيلان". فعل الأمر ذاته في أول خطاب له من الرياض بعد تعرضه لمحاولة اغتيال في قلب قصره الرئاسي المحصن بالأسوار العالية وأنظمة الحماية المتطورة جنوب صنعاء تحدث صالح عن الفرضة والنقيل والصمع وبيت دهرة وخشم البكرة.
راوغ صالح في الاستسلام للثورة الضاغطة، لكنه كان يخسر قوته يوما بعد آخر، لاذ بمبادرة تسوية تولى صياغتها وتبنتها دول مجلس التعاون الخليجي، ماطل في التوقيع عليها كثيرا. حين كانت الفرضة ونقيل بن غيلان خارج سيطرته تقدم الثوار نحو العاصمة وسيطروا على معسكراته في بيت دهره وفي خشم البكرة ووصلوا إلى حدود الحتارش، كان ذلك التقدم إحدى أسباب رضوخ صالح ليغادر صنعاء ليلا إلى الرياض لتوقيع المبادرة (23 نوفمبر 2011).
في 2012 سلم الثوار المعسكرات والمواقع للحكومة التوافقية، وتم نقل كتائب من الجيش المناصر للثورة إلى معسكر الفرضة. لكن المعسكر والمواقع الأخرى عادت مجددا تحت سيطرة تحالف صالح وجماعة الحوثي بعد انقلابهم على الدولة في سبتمبر2014م.
تحصينات صالح وتكتيك المقاومة
خرقت قوات المقاومة والجيش عقدة التاريخ، وصلت إلى الفرضة وتجاوزتها باتجاه نقيل بن غيلان.
في ديسمبر الماضي أمر صالح آخر رموز طاقمه الإعلامي نبيل الصوفي بالنزول إلى الفرضة، التقط صورا في منطقة مجهولة على الطريق، ثم عاد، وبين ما قاله الرجل: "لو قدر تحالف العدوان، الذي يملك فارق امكانيات، وقلة عقل، ووفرة في المال، لو قدر فقط الوصول إلى فرضة نهم، فسيكون انجاز تاريخي كبير لكل مشاريع غزو صنعاء منذ قديم الأزل".
قال الصوفي إن الفرضة والنقيل "لا يحتاج لسوى الأفراد القناصة، هذه الأطواق من الجبال، توفر لمن يحمي صنعاء إمكانيات طبيعية، فلا تقتله طائرة، ولا تقوى على اقتحام الجبل أي معدات وهو متمترس فيه". مشيرا إلى أن جنود صالح والحوثي المتمركزين على مرتفعات الجبال "أيديهم على الزناد" لوقف الجيش والمقاومة. كان يشير إلى قناصة محترفين من قوات النخبة وممن تدربوا لدى خبراء من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني، وزعوا للخندقة في قمم الجبال المحيطة بالفرضة وتزويدهم بمختلف الأسلحة والذخائر ومخازن المواد الغذائية والعلاجية.
فتحت الميليشيات جبهات مختلفة للذود عن الفرضة وكانت تعتبر وصول المقاومة إليها مستحيلا. يقول أحد سكان قرعان نهم أن مشرف الميليشيات وقف خطيبا لعناصر صالح والحوثي المتمركزين في قمة جبال قرود الاستراتيجية وخاطبهم متحديا: إذا وصلوا الدواعش (مصطلح يطلقه الحوثيون على معارضيهم) فأنهم على حق ونحن على باطل". قال ذلك وهو يقف على قمة قرود، السلسلة الجبلية الشاهقة طولها حوالي 20 كم، وهي قمة لم يصلها بشر من قبل باستثناء طريق هبوط شديد الوعورة تم شقه للتهريب.
كان يتوقع من الجيش والمقاومة التقدم عبر الطريق الاسفلتي المتعرج (قلب الفرضة)، كان الأمر مختلفا، اتبعت المقاومة خطة التفافية وتكتيك ذكي تحاشى خطأ التقدم صعودا عبر الطريق والعدو من فوقهم ومن شمالهم وعن يمينهم، لم تترك ظهرها مكشوفا.
تسلق رجال الجيش والمقاومة تلك الجبال الوعرة، وحققوا ما لم يفعله من قبلهم. كثيرهم من حملة شهادات جامعية بتخصصات علمية مختلفة وبينهم حملة ماجستير، جلهم من أهل قبائل صنعاء ومحافظات جبلية شردوا من ديارهم ونكلت بهم وقومهم الميليشيات ويتوقون للعودة فاتحين. أهل صنعاء أدرى بجبالها.
توغلت المقاومة والجيش شمالا باتجاه وادي الخانق وقرى نهم، وجبال قرود وجبل الكولة. تم قطع طرق الإمداد الرئيسية والمعبدة عن الميليشيات، ثم التقدم عبر جبال وقرية ملح الواقعة بعد الفرضة باتجاه النقيل وتم قطع طرق الإمداد عبر الطريق العام الذي بات في مرمى نيران المقاومة. التقدم الآخر جاء عبر جبال يام.
تم تطويق المعسكر والنقطة من ثلاثة اتجاهات وفرض الحصار عليه وأصبح تحت السيطرة النارية ولم يعد يشكل خطرا على المقاومة التي استمرت في التقدم نحو مناطق بران ومسورة ومحلي.
وفي الـ11 من فبراير استكملت قوات الجيش والمقاومة السيطرة على الفرضة واقتحمت المعسكر والنقطة وفتحت جبهات متقدمة لإبقائه آمنا.
إسناد التحالف ومساندة القبائل
مقاتلات التحالف العربي لعبت دورا محوريا في تسريع وتسهيل تقدم المقاومة، ونفذت غارات مكثفة استهدفت مواقع ومخازن وأسلحة ومعدات الميليشيات ومنعت وصول أية تعزيزات قادمة من صنعاء. تكبدت الميليشيات خسائر كبيرة في العتاد والأرواح، تحولت المعركة لصالح المقاومة وأصبحت حربا استنزافية للميليشيات.
ساندت قبائل نهم الجيش والمقاومة، عكس ما خطط له صالح وأراده من قبائل الطوق بتأمينه داخل العاصمة ومساندة قواته في "الأيام العصيبة".
معارك ما بعد الفرضة لن تكون بأعتى من التي قبلها، المنطقة الفاصلة بين الفرضة والعاصمة تخضع للقبائل المناصرة للشرعية، أبرزها قبيلتي نهم وأرحب ولهما مواقف متسلسلة في مواجهة نظام صالح وجماعة الحوثي وعدد كبير من أبنائها منخرطون في صفوف الجيش والمقاومة.