الرئيسية / تقارير وحوارات / الصومالي الذي يحب اليمن أكثر من عبده بورجي
الصومالي الذي يحب اليمن أكثر من عبده بورجي

الصومالي الذي يحب اليمن أكثر من عبده بورجي

29 فبراير 2012 10:01 مساء (يمن برس)
في طابور طويل من البشر وصوت قادم من وسط الواقفين «يا يمني..يا يمني» وكأني لم أسمع, لا أريد أن أتصرف في مطار أوروبي كما لو كنت في سوق الحصبة، لكن الصوت اقترب أكثر، وأصبح المنادي خلفي مباشرة، حاملاً معه سؤالاً لم أكن أتصور أن يلحقني كل تلك المسافات الشاسعة» هل رفعوا المتاريس من شارع الزبيري؟».

أهملت الإجابة وسألت الرجل ذا البشرة السمراء والابتسامة التي تشبه إلى حد كبير ابتسامة شيخ شريف أمام كاميرا الجزيرة: إيش عرّفك بشارع الزبيري؟ أجابني «أعرف صنعاء حارة حارة».. وكأن ثلاث رحلات جوية لا تكفي للهروب من عاصمة تشتعل ويصل دخانها إلى آخر الدنيا.

منذ أكثر من واحد وعشرين عاماً بدأت قصة عبدالرحمن مع وصول أول سفينة إلى ميناء عدن تحمل فارين من حرب الصومال، كانت تلك أول رحلة لمن عرفوا فيما بعد باللاجئين.

يقول: «كنت ضمن من وصلوا إلى اليمن.. أتذكر الشمس وسط السماء والجو حار إلى درجة لا تطاق تم استقبالنا كضيوف».

بعدها انتقل عبدالرحمن للعيش في العاصمة، وتنقل في أرجائها حتى وجد فرصة أخرجته إلى البلد الثالث بريطانيا التي يحمل جنسيتها ويتحدث لغتها بطلاقة، ومع ذلك عندما يحلم أو يحب يلوذ إلى لغته الأم كي تجيد التعبير عنه.

كلماته تشير إلى عجزه عن نسيان الموطن الذي هرب منه والذي عبر من خلاله.. يسرد أحياء صنعاء، كما لو كان أميناً للعاصمة لزمن، وكلما ذكر اسم شارع لم أسمع به من قبل أهز رأسي بالإيجاب وأحاول إخراجه إلى مكان آخر أعرفه جيداً.

يتوق الرجل الخمسيني إلى العودة لثروته القديمة في الصومال وإلى عالمه الذي لا يفارق خياله وأحلامه، لكن مشكلة صغيرة تحول دون ذلك.. لاحقاً اتضح لي أن المشكلة الصغيرة هي الحرب القائمة على الأرض، تبدو المصائب الكبيرة من كل هذه المسافة الأرضية والزمنية صغيرة يمكن حلها بسهولة وتتعدد الحلول التي طرحها المهاجر البعيد.

توفر اليمن بأرضها القاسية ملجأ لمئات الآلاف من الصوماليين، ويوفرون لها مكاناً في قلوبهم، رغم أنها لا تعاملهم إلا كمسافر ظل وجهته ولا تتحرج أن تلقي اللؤم عليهم في مشاكلها المتعددة.

وفي أعمارهم التي تتآكل هنا لا يجدون مساحة للاندماج معنا ويظلون صوماليين لا نتحدث معهم إلا نادراً واضطراراً ونعلي أصواتنا غاضبين عندما لا يتحدثون بالعربية، ونحاول أن نلعب دور الإقطاعيين أمامهم، رغم أننا بالكاد ندفع إيجار الشهر مع عدم اهتمامهم بكل ما نقوم به، فلا يعنيهم إن كنت فقيراً أو غنياً، لن يمد أحدهم يده إليك لتطعمه أو تسقيه, يسقطون في شوارعنا متضورين جوعاً؛ لأن حياءهم منعهم من مد أيديهم.

لا تسعفني ذاكرتي برؤية صومالي يتسوّل، حتى إنهم حريصون على أن يظهروا كمن يبحث عن أقرب محل صرافة، لقد استحسنوا تلك الشائعة التي تقول إنهم يتقاضون أموالاً شهرية من مفوضية شؤون اللاجئين، وحين أكد لي نبيل عثمان ـ ممثل المفوضية في «مقابلة سابقة» ـ أنهم لا يدفعون أي مبالغ للاجئين، حاولت أن ألتف بالسؤال أكثر من مرة، فقد ترسخ عندي أن الأمم المتحدة تصرف عليهم، وإلا لماذا كل هذا العفاف الذي تفتقر إليه شعوب تدّعي الحضارة.

مئات الآلاف منهم يعيشون بيننا رافعي هاماتهم في انتظار أن تحل مشكلتهم أو يشقوا طريقهم نحو بلد ثالث لينتظروا هناك، ولا نجد منهم ما يسيء, يحرصون على تقديرنا والفرح ينتابهم عند تحدثنا إليهم..أليسوا جديرين بالاحترام وحسن المعاملة وليس إلصاق التهم بهم في مناسبات عديدة، أحدثها أن القناصة الذين يقتلوننا صوماليون لا يعرفون الرحمة.. عندما جازفت بممازحة أحدهم واتهامه بالقيام بالقنص حاصرتني إجابته: «كل من يأتون إلى اليمن يغامرون بحياتهم حتى لا يقتلون أحداً أو يقتلهم أحد فكيف يعودون إلى ما هربوا منه, القتلة لا يغادرون الصومال إلا موتى, نحن مسالمون».. هذه الإجابة تكفي لأحزن من أجل كل هؤلاء الفارين من بلد نحلم أن يعود إلى غروره اللطيف، وألا يبقى نموذجاً يورده الحكام كلما أرادوا إرعاب شعوبهم من التغيير.

مثل عبدالرحمن الكثير من الصوماليين، يحبون هذه الأرض التي احتوت وجودهم دون أن يتقاضوا أجراً من منظمة تدعى «اليمن أولاً» تصرف الملايين لأجل من يعلن حبه المزيف.. عبدالرحمن يحب هذه البلاد أكثر من عبده بورجي - رئيس المنظمة - لكنه لم ينتظر أن تمنحه الأموال ليودعها في خزائن ألمانيا مقابل حب، ولم يحول محبوبته إلى إعلان تجاري كما لو كانت شركة دواجن تشهد كساداً.
شارك الخبر