تمطر المنظمات الدولية منذ أسابيع على اليمن بتقاريرها الإنسانية والاقتصادية المقلقة، مطلقة جرس الإنذار إزاء التدهور الكبير للمعيشة والتنمية في اليمن، ليس إثر الاحتجاجات الدامية التي شلّت البلاد في العام الأخير فحسب بل أيضاً جراء عقود من السياسات الخانقة.
تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" إن اليمن ثاني دولة في العالم بعد أفغانستان، من حيث ارتفاع معدل سوء التغذية المزمن بين الأطفال، إذ تصل نسبة النمو المتعثر فيها إلى 58 في المئة فيما يعاني حوالى 30 في المئة من الأطفال في بعض المناطق من سوء التغذية الحاد، وهي نسبة تعادل ما يشهده جنوب الصومال حالياً. أما منظمة "اوكسفام" غير الحكومية في اليمن فتحذر بدورها من خطر نشوب أزمة إنسانية خطيرة في البلد الأكثر فقراً في المنطقة متخوفة من ارتفاع معدّل الوفيات في صفوف الأطفال... تحذيرات تضاف إلى ما أعلنه الشهر الماضي الأمين العام المساعد لشؤون المفاوضات في مجلس التعاون الخليجي عبدالعزيز العويشق عن "المؤشرات الخطيرة جداً" التي تنذر بانهيار الاقتصاد اليمني، وعلى رأسها بدء نفاد "الموارد الطبيعية (الماء -النفط)" في اليمن وارتفاع نسبة البطالة إلى 53 في المئة فيما يعيش الفرد بأقل من دولارين يومياً...
أرقام مرعبة تزيد من خطورة المرحلة السياسية الانتقالية التي يعيشها اليمنيون اليوم، والذين يستعدون في 21 شباط الحالي لانتخاب عبد ربه منصور هادي، نائب الرئيس المعزول علي عبدالله صالح، رئيساً للبلاد وفقاً لبنود الاتفاق الخليجي لنقل السلطة.. تراجع الإنتاج النفطي، انخفاض الاحتياط الأجنبي في البنك المركزي اليمني، نقص الوقود الذي شلّ الشركات المحلية إلى حدّ رفض البنوك ومحلات الصيرفة شراء الريال اليمني... كلها تحديات هائلة عدّدها تقرير شامل لـ"معهد الشرق الأوسط" عن "أزمة الاقتصاد اليمني"، في وقت يظهر الزعماء اليمنيون إصراراً على عدم المسارعة لمواجهتها، بل ان "النخبة اليمنية تحوّل صنعاء إلى بيروت 1975".
ينبع الخوف الكبير على الاقتصاد اليمني بحسب التقرير من تحديين أساسيين، الأول تراجع النفط مع انخفاض عائداته، والثاني، ندرة الموارد الطبيعية، خصوصاً المياه التي تُعدّ مفتاح الإنتاج الزراعي، ليُضاف إليهما انخفاض التحويلات المالية من السعودية بشكل رئيسي بعد إغلاق المملكة بابها في وجه العمّال اليمنيين لأسباب سياسية اكثر مما هي اقتصادية (اذ تتخوّف دول مجلس التعاون الخليجي حالياً من عمّال يمنيين يأتون من بيئة سياسية مختلفة، تعترف بالانتخابات وبفكرة الديموقراطية وحقوق الإنسان.. فضلاً عن استبعادها عمّالاً يمنيين تعتبرهم بلا كفاءة او تدريب).
وفيما يروي التقرير أن "اليمن ليس بالفقر الذي نخاله" إذ أن ديون اليمن لا تتعدى الـ6 مليارات دولار من جهة وان فقره لا يقارن بفقر موزمبيق او جنوب الصحراء الكبرى (إفريقيا السوداء) من جهة أخرى، كما أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في اليمن أكبر مما هو عليه في بلدان مثل كينيا (760 دولاراً) وفيتنام (930 دولاراً) وباكستان (ألف دولار)، يشير في الوقت نفسه إلى أن الاقتصاد اليمني بحاجة ماسة إلى الانتعاش سريعاً بالخروج من دائرة "الاعتماد الدائم على النفط" والعثور على مصادر اقتصادية تنموية بديلة.
النفط اليمني.. ولعنته
لم يكن اليمن يوماً منتجاً كبيراً للنفط وفقاً للمعايير العالمية. في العام 1995، كان اليمن ينتج حوالى 350 ألف برميل نفط يومياً ليرتفع الإنتاج إلى 450 ألف برميل يومياً في العام 2001، قبل أن يبدأ انحدار الإنتاج التدريجي بعد ذلك. (السعودية قادرة على إنتاج 12 مليون برميل يومياً). كان اليمن محظوظاً، اذ في وقت بدأ انخفاض الإنتاج النفطي، ارتفعت أسعار النفط العالمية بشكل حاد، وخففت من التأثير الاقتصادي لتراجع الإنتاج اليمني. ففي حين كان إنتاج النفط في طور الانخفاض، واصلت العائدات صعودها. وفي السنوات القليلة الماضية، ارتبطت عائدات النفط اليمنية على نحو أوثق بسعر النفط المضطرب في الاقتصاد العالمي أكثر من ارتباطها بمستويات الإنتاج.. من هنا، ساهم النفط في تشكّل الاقتصاد اليمني بمساهمته المحدودة في الاقتصاد اليمني خلال التسعينيات، حيث شهد الإنتاج النفطي نمواً كبيراً بين عامي 2000 و2010 مكّنه من السيطرة على الصادرات وتأمين 75 في المئة من العائدات بشكل عام.
والآن، وفيما تزداد المخاوف من تعطيل الإنتاج النفطي في الشرق الأوسط في ظل ما تمرّ به المنطقة من اضطرابات، تعود أسعار الوقود إلى الارتفاع مرة أخرى، ليحمل التراجع النفطي آثاره السلبية على اليمن كما على غيره من البلدان العربية. لكن ما سبب "المعاناة النفطية" في اليمن؟
1- كان النمو في الاقتصاد اليمني أسرع على مستوى الاتصالات والنقل والتبادل التجاري، فيما لم تشهد القطاعات المنتجة للسلع الأساسية نمواً مماثلاً. أما الانخفاض الأخير في المجال النفطي (من ثلث الناتج المحلي الإجمالي إلى 10 في المئة من هذا الناتج) ففتح الباب واسعاً أمام سيطرة قطاعات الاتصالات والتجارة والنقل على الاقتصاد. في المقابل، انحسر دور القطاع الصناعي في الاقتصاد اليمني مع انخفاض مساهمته من نسبة 13 في المئة من الناتج المحلي في العام 1994 إلى 7 في المئة في العام 1999 والى 5 في المئة في السنوات الأخيرة... لذا، لم يستطع اليمن، باختباره الاعتماد على القطاعات الإنتاجية الأخرى (غير النفط)، النهوض اقتصادياً خصوصاً ان هذه القطاعات تأثرت بالاستثمارات الضئيلة وغياب عنصر المنافسة.
2- تؤثر السياسة اليمنية في التعاطي مع المداخيل النفطية بشكل كبير على هذا القطاع. فبدلاً من العمل على تعزيز قدرة هذا القطاع وتنظيمه اقتصادياً عن طريق الضرائب على المبيعات وغيرها من التدابير، يتم استنزاف العائدات النفطية التي تشكل 75 في المئة من العائدات العامة للبلاد في المكان الخطأ (حصلت محاولات منذ سنوات قليلة لتطوير جمع الضريبة على المبيعات غير أن المفاوضات مع القطاع الخاص لم تأت بحلول، وصولاً إلى الأزمة الراهنة التي شلّت هذه المساعي).
3- لطالما طلب صندوق النقد الدولي من اليمن تخفيف الدعم على الوقود غير أن عدم تلبية الحكومة اليمنية النداء ارتبط بحسابات سياسية داخلية: أولاً، لأن المعارضة اليمنية آنذاك استغلت الأمر لدواعٍ سياسية (لعب حزب التجمع اليمني للإصلاح- الإخوان المسلمين، دوراً سياسياً وشعبياً جدياً منذ العام 1997، يوم أتت الانتخابات بنوابه إلى البرلمان)، وسوّقت المعارضة لفكرة ضرب الحكومة لمصالح الناس في حال رفعها الدعم وأنها تبيع سيادتها لصندوق النقد. ثانياً، ساهم الدعم في حماية عمليات التهريب النفطية إلى إفريقيا، حيث كان الرئيس علي عبدالله صالح وقائد الفرقة الأولى مدرع علي محسن والعديد من شخصيات آل الأحمر، شركاء في تهريب "النفط المدعوم والمربح" إلى زبائن إفريقيين...
أزمة المياه
بالرغم من المناخ الممطر الذي يخيّم على اليمن لأوقات مختلفة من السنة، وذلك خلافاً لباقي البلدان في الجزيرة العربية، تزداد المياه ندرة. لا شك في أن السبب مرتبط بالزيادة في الكثافة السكانية اليمنية ومحدودية إمدادات المياه، فضلا عن عدم وجود أنهار تأتي بالمياه من مناطق مختلفة كالنيل في مصر او دجلة والفرات في العراق او من الهند او باكستان. كذلك، ليس لليمن، على عكس دول مجلس التعاون الخليجي، الثروة الكافية للاستثمار في محطات تحلية المياه.. أكثر من ذلك، يكفي ان الزراعة اليمنية تستهلك 90 في المئة من المياه، خصوصاً ان حوالى 50 في المئة من الأراضي الزراعية "مطرية" (للذرة والحبوب) والأخرى تقوم على الرّي (للقات كمنتج زراعي أساسي في اليمن، اذ يغطي زرعه 10 في المئة من الأراضي الزراعية اليمنية ككل، كما يشكل 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي).
تحذير خبراء من أن صنعاء قد تصبح أول مدينة في العالم تنضب منها المياه في غضون عشر سنوات، ليس تحذيراً مبالغاً فيه، خصوصاً ان الطبيعة لا تعوّض المياه التي تسحب من الآبار الجوفية بسرعة تواكب معدلات الاستهلاك المتزايدة للسكان البالغ عددهم 23 مليون نسمة ويتوقع أن يزيدوا إلى الضعف خلال 20 عاماً. وفيما يقرّ مدير مصادر المياه في المؤسسة المحلية في صنعاء المهندس خالد زيد الخربي بأن المؤسسة لا تستطيع إمداد أكثر من نصف سكان المدينة باحتياجاتهم من المياه قائلاً "نعاني من أزمة توفير مصادر مياه لأكثر من 60 في المئة من أمانة العاصمة لا تغطيها المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي"، يرى خبير المياه في الوكالة الألمانية للتعاون الدولي في اليمن أنور سحولي أن "المسؤولين اليمنيين لا يدركون فداحة المشكلة بعد. هم أمام مشاكل أخرى الآن.. سياسية وعسكرية.. لا يعلمون أن الحروب المستقبلية في العالم هي حروب المياه"...
تعثّر البدائل
أول الخيارات التي قد توضع على طاولة البحث اليمنية لإيجاد بديل عن النفط والمياه، هو الغاز. ربما هو الخيار الذي بات الأكثر شعبية في العالم ككل مع تحوّل الصراع الدولي إلى صراع حول الطاقة ومصادرها، إلا ان حصة اليمن في هذا المجال لا تبدو مطمئنة. في حال استثمار اليمن مشروع الغاز الأكبر في البلاد (مشروع "الشركة اليمنية للغاز الطبيعي المسال" في بلحاف جنوب غربي مدينة المكلا) جيداً، وذلك بتأمين إمدادات من حقول مأرب إلى الأسواق، فمن شأن ذلك إنعاش الاقتصاد اليمني بمليار دولار سنوياً، فضلاً عن 100 مليون دولار كمتوسط للإيرادات الضريبية السنوية للحكومة على مدى السنوات الخمس والعشرين المقبلة. وفيما قد تذهب معظم العائدات من الغاز إلى مستثمرين أجانب، من شأن مشروع كهذا ان يمنح الحكومة اولاً نسبة من أرباح المستثمرين، وثانياً عائدات ضريبية تصاعدية.
.. لن ينجح الاعتماد على هذا البديل او على غيره من دون إرادة سياسية. كما يصعب تنفيذ خطط الحل من دون جسم يمني متخصص وإدارة بيروقراطية ومشروع مؤسساتي يحمي العائدات التي من الممكن توافرها لا بل استخدامها في المكان المناسب. المرحلة الانتقالية اليمنية مخاض معيشي قبل أن يكون سياسياً: اليمن يختبر "الخلل الاقتصادي" نتيجة تحوّله القسري من بلد يعتمد على النفط إلى بلد يبحث عن البديل. فهل تؤمن السلطة (القديمة -الجديدة) احتياجات وطنية كانت اساس الخروج الثوري الى الشارع؟
تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" إن اليمن ثاني دولة في العالم بعد أفغانستان، من حيث ارتفاع معدل سوء التغذية المزمن بين الأطفال، إذ تصل نسبة النمو المتعثر فيها إلى 58 في المئة فيما يعاني حوالى 30 في المئة من الأطفال في بعض المناطق من سوء التغذية الحاد، وهي نسبة تعادل ما يشهده جنوب الصومال حالياً. أما منظمة "اوكسفام" غير الحكومية في اليمن فتحذر بدورها من خطر نشوب أزمة إنسانية خطيرة في البلد الأكثر فقراً في المنطقة متخوفة من ارتفاع معدّل الوفيات في صفوف الأطفال... تحذيرات تضاف إلى ما أعلنه الشهر الماضي الأمين العام المساعد لشؤون المفاوضات في مجلس التعاون الخليجي عبدالعزيز العويشق عن "المؤشرات الخطيرة جداً" التي تنذر بانهيار الاقتصاد اليمني، وعلى رأسها بدء نفاد "الموارد الطبيعية (الماء -النفط)" في اليمن وارتفاع نسبة البطالة إلى 53 في المئة فيما يعيش الفرد بأقل من دولارين يومياً...
أرقام مرعبة تزيد من خطورة المرحلة السياسية الانتقالية التي يعيشها اليمنيون اليوم، والذين يستعدون في 21 شباط الحالي لانتخاب عبد ربه منصور هادي، نائب الرئيس المعزول علي عبدالله صالح، رئيساً للبلاد وفقاً لبنود الاتفاق الخليجي لنقل السلطة.. تراجع الإنتاج النفطي، انخفاض الاحتياط الأجنبي في البنك المركزي اليمني، نقص الوقود الذي شلّ الشركات المحلية إلى حدّ رفض البنوك ومحلات الصيرفة شراء الريال اليمني... كلها تحديات هائلة عدّدها تقرير شامل لـ"معهد الشرق الأوسط" عن "أزمة الاقتصاد اليمني"، في وقت يظهر الزعماء اليمنيون إصراراً على عدم المسارعة لمواجهتها، بل ان "النخبة اليمنية تحوّل صنعاء إلى بيروت 1975".
ينبع الخوف الكبير على الاقتصاد اليمني بحسب التقرير من تحديين أساسيين، الأول تراجع النفط مع انخفاض عائداته، والثاني، ندرة الموارد الطبيعية، خصوصاً المياه التي تُعدّ مفتاح الإنتاج الزراعي، ليُضاف إليهما انخفاض التحويلات المالية من السعودية بشكل رئيسي بعد إغلاق المملكة بابها في وجه العمّال اليمنيين لأسباب سياسية اكثر مما هي اقتصادية (اذ تتخوّف دول مجلس التعاون الخليجي حالياً من عمّال يمنيين يأتون من بيئة سياسية مختلفة، تعترف بالانتخابات وبفكرة الديموقراطية وحقوق الإنسان.. فضلاً عن استبعادها عمّالاً يمنيين تعتبرهم بلا كفاءة او تدريب).
وفيما يروي التقرير أن "اليمن ليس بالفقر الذي نخاله" إذ أن ديون اليمن لا تتعدى الـ6 مليارات دولار من جهة وان فقره لا يقارن بفقر موزمبيق او جنوب الصحراء الكبرى (إفريقيا السوداء) من جهة أخرى، كما أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في اليمن أكبر مما هو عليه في بلدان مثل كينيا (760 دولاراً) وفيتنام (930 دولاراً) وباكستان (ألف دولار)، يشير في الوقت نفسه إلى أن الاقتصاد اليمني بحاجة ماسة إلى الانتعاش سريعاً بالخروج من دائرة "الاعتماد الدائم على النفط" والعثور على مصادر اقتصادية تنموية بديلة.
النفط اليمني.. ولعنته
لم يكن اليمن يوماً منتجاً كبيراً للنفط وفقاً للمعايير العالمية. في العام 1995، كان اليمن ينتج حوالى 350 ألف برميل نفط يومياً ليرتفع الإنتاج إلى 450 ألف برميل يومياً في العام 2001، قبل أن يبدأ انحدار الإنتاج التدريجي بعد ذلك. (السعودية قادرة على إنتاج 12 مليون برميل يومياً). كان اليمن محظوظاً، اذ في وقت بدأ انخفاض الإنتاج النفطي، ارتفعت أسعار النفط العالمية بشكل حاد، وخففت من التأثير الاقتصادي لتراجع الإنتاج اليمني. ففي حين كان إنتاج النفط في طور الانخفاض، واصلت العائدات صعودها. وفي السنوات القليلة الماضية، ارتبطت عائدات النفط اليمنية على نحو أوثق بسعر النفط المضطرب في الاقتصاد العالمي أكثر من ارتباطها بمستويات الإنتاج.. من هنا، ساهم النفط في تشكّل الاقتصاد اليمني بمساهمته المحدودة في الاقتصاد اليمني خلال التسعينيات، حيث شهد الإنتاج النفطي نمواً كبيراً بين عامي 2000 و2010 مكّنه من السيطرة على الصادرات وتأمين 75 في المئة من العائدات بشكل عام.
والآن، وفيما تزداد المخاوف من تعطيل الإنتاج النفطي في الشرق الأوسط في ظل ما تمرّ به المنطقة من اضطرابات، تعود أسعار الوقود إلى الارتفاع مرة أخرى، ليحمل التراجع النفطي آثاره السلبية على اليمن كما على غيره من البلدان العربية. لكن ما سبب "المعاناة النفطية" في اليمن؟
1- كان النمو في الاقتصاد اليمني أسرع على مستوى الاتصالات والنقل والتبادل التجاري، فيما لم تشهد القطاعات المنتجة للسلع الأساسية نمواً مماثلاً. أما الانخفاض الأخير في المجال النفطي (من ثلث الناتج المحلي الإجمالي إلى 10 في المئة من هذا الناتج) ففتح الباب واسعاً أمام سيطرة قطاعات الاتصالات والتجارة والنقل على الاقتصاد. في المقابل، انحسر دور القطاع الصناعي في الاقتصاد اليمني مع انخفاض مساهمته من نسبة 13 في المئة من الناتج المحلي في العام 1994 إلى 7 في المئة في العام 1999 والى 5 في المئة في السنوات الأخيرة... لذا، لم يستطع اليمن، باختباره الاعتماد على القطاعات الإنتاجية الأخرى (غير النفط)، النهوض اقتصادياً خصوصاً ان هذه القطاعات تأثرت بالاستثمارات الضئيلة وغياب عنصر المنافسة.
2- تؤثر السياسة اليمنية في التعاطي مع المداخيل النفطية بشكل كبير على هذا القطاع. فبدلاً من العمل على تعزيز قدرة هذا القطاع وتنظيمه اقتصادياً عن طريق الضرائب على المبيعات وغيرها من التدابير، يتم استنزاف العائدات النفطية التي تشكل 75 في المئة من العائدات العامة للبلاد في المكان الخطأ (حصلت محاولات منذ سنوات قليلة لتطوير جمع الضريبة على المبيعات غير أن المفاوضات مع القطاع الخاص لم تأت بحلول، وصولاً إلى الأزمة الراهنة التي شلّت هذه المساعي).
3- لطالما طلب صندوق النقد الدولي من اليمن تخفيف الدعم على الوقود غير أن عدم تلبية الحكومة اليمنية النداء ارتبط بحسابات سياسية داخلية: أولاً، لأن المعارضة اليمنية آنذاك استغلت الأمر لدواعٍ سياسية (لعب حزب التجمع اليمني للإصلاح- الإخوان المسلمين، دوراً سياسياً وشعبياً جدياً منذ العام 1997، يوم أتت الانتخابات بنوابه إلى البرلمان)، وسوّقت المعارضة لفكرة ضرب الحكومة لمصالح الناس في حال رفعها الدعم وأنها تبيع سيادتها لصندوق النقد. ثانياً، ساهم الدعم في حماية عمليات التهريب النفطية إلى إفريقيا، حيث كان الرئيس علي عبدالله صالح وقائد الفرقة الأولى مدرع علي محسن والعديد من شخصيات آل الأحمر، شركاء في تهريب "النفط المدعوم والمربح" إلى زبائن إفريقيين...
أزمة المياه
بالرغم من المناخ الممطر الذي يخيّم على اليمن لأوقات مختلفة من السنة، وذلك خلافاً لباقي البلدان في الجزيرة العربية، تزداد المياه ندرة. لا شك في أن السبب مرتبط بالزيادة في الكثافة السكانية اليمنية ومحدودية إمدادات المياه، فضلا عن عدم وجود أنهار تأتي بالمياه من مناطق مختلفة كالنيل في مصر او دجلة والفرات في العراق او من الهند او باكستان. كذلك، ليس لليمن، على عكس دول مجلس التعاون الخليجي، الثروة الكافية للاستثمار في محطات تحلية المياه.. أكثر من ذلك، يكفي ان الزراعة اليمنية تستهلك 90 في المئة من المياه، خصوصاً ان حوالى 50 في المئة من الأراضي الزراعية "مطرية" (للذرة والحبوب) والأخرى تقوم على الرّي (للقات كمنتج زراعي أساسي في اليمن، اذ يغطي زرعه 10 في المئة من الأراضي الزراعية اليمنية ككل، كما يشكل 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي).
تحذير خبراء من أن صنعاء قد تصبح أول مدينة في العالم تنضب منها المياه في غضون عشر سنوات، ليس تحذيراً مبالغاً فيه، خصوصاً ان الطبيعة لا تعوّض المياه التي تسحب من الآبار الجوفية بسرعة تواكب معدلات الاستهلاك المتزايدة للسكان البالغ عددهم 23 مليون نسمة ويتوقع أن يزيدوا إلى الضعف خلال 20 عاماً. وفيما يقرّ مدير مصادر المياه في المؤسسة المحلية في صنعاء المهندس خالد زيد الخربي بأن المؤسسة لا تستطيع إمداد أكثر من نصف سكان المدينة باحتياجاتهم من المياه قائلاً "نعاني من أزمة توفير مصادر مياه لأكثر من 60 في المئة من أمانة العاصمة لا تغطيها المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي"، يرى خبير المياه في الوكالة الألمانية للتعاون الدولي في اليمن أنور سحولي أن "المسؤولين اليمنيين لا يدركون فداحة المشكلة بعد. هم أمام مشاكل أخرى الآن.. سياسية وعسكرية.. لا يعلمون أن الحروب المستقبلية في العالم هي حروب المياه"...
تعثّر البدائل
أول الخيارات التي قد توضع على طاولة البحث اليمنية لإيجاد بديل عن النفط والمياه، هو الغاز. ربما هو الخيار الذي بات الأكثر شعبية في العالم ككل مع تحوّل الصراع الدولي إلى صراع حول الطاقة ومصادرها، إلا ان حصة اليمن في هذا المجال لا تبدو مطمئنة. في حال استثمار اليمن مشروع الغاز الأكبر في البلاد (مشروع "الشركة اليمنية للغاز الطبيعي المسال" في بلحاف جنوب غربي مدينة المكلا) جيداً، وذلك بتأمين إمدادات من حقول مأرب إلى الأسواق، فمن شأن ذلك إنعاش الاقتصاد اليمني بمليار دولار سنوياً، فضلاً عن 100 مليون دولار كمتوسط للإيرادات الضريبية السنوية للحكومة على مدى السنوات الخمس والعشرين المقبلة. وفيما قد تذهب معظم العائدات من الغاز إلى مستثمرين أجانب، من شأن مشروع كهذا ان يمنح الحكومة اولاً نسبة من أرباح المستثمرين، وثانياً عائدات ضريبية تصاعدية.
.. لن ينجح الاعتماد على هذا البديل او على غيره من دون إرادة سياسية. كما يصعب تنفيذ خطط الحل من دون جسم يمني متخصص وإدارة بيروقراطية ومشروع مؤسساتي يحمي العائدات التي من الممكن توافرها لا بل استخدامها في المكان المناسب. المرحلة الانتقالية اليمنية مخاض معيشي قبل أن يكون سياسياً: اليمن يختبر "الخلل الاقتصادي" نتيجة تحوّله القسري من بلد يعتمد على النفط إلى بلد يبحث عن البديل. فهل تؤمن السلطة (القديمة -الجديدة) احتياجات وطنية كانت اساس الخروج الثوري الى الشارع؟