الرئيسية / تقارير وحوارات / يهود اليمن في إسرائيل.. حنين العودة للفردوس المفقود
يهود اليمن في إسرائيل.. حنين العودة للفردوس المفقود

يهود اليمن في إسرائيل.. حنين العودة للفردوس المفقود

09 أغسطس 2013 07:30 صباحا (يمن برس)
‬ترانيم حنين ترسلها اليهودية اليمنية المقيمة بإسرائيل نجاة النهاري‮ ‬لوطنها اليمن‮ ‬يملأها الشوق ولوعة الغربة لبلد احبتها وسكنت روحها وحملتها بقلبها في‮ ‬رحلة البعد‮ ‬،‮ ‬تتحدث نجاة النهاري‮ ‬عن اليمن بكلمات‮ ‬يغلب عليها اللوعة ومرارة الفراق عن ما تراها‮ ‬غلطة اقترفتها حينما‮ ‬غرر بها لترحل عن وطن لم تدرك عظم عشقها له إلاّ‮ ‬عندما فارقته‮ ‬،‮ ‬كما تروي‮ ‬حكايات عن حياة اليهود اليمنيين بإسرائيل وحفاظهم على كل ما‮ ‬يربطهم باليمن من عادات وتقاليد أو الأزياء والممارسات اليومية‮.‬

اليمن أصل
‮‬نجاة النهاري‮ ‬مهندسة معمارية رحلت من اليمن مع اسرتها عام‮ ‬1993م تناهض عنصرية إسرائيل وتتألم مع كل رصاصة تنطلق نحو صدر عربي‮ ‬،‮ ‬وتتمنى أنها لم تكن هاجرت‮ ‬يوما من موطنها الأصلي‮ .. ‬تقول‮ : ‬يهود اليمن هم أكثر‮ ‬يهود العالم اعتزازاً‮ ‬بوطنهم ويقدمون الانتماء إليه على الانتماء للدين‮ ‬وحتى من هاجروا إلى إسرائيل مازال اغلبهم متشبثين بكل شيء‮ ‬يمني‮ ‬بما في‮ ‬ذلك الحجاب‮.‬

أتعرفون لماذا هذا الاختلاف؟ لآن اليمن هي‮ ‬أصل العرب ومن الصعب تغيير الأصلي‮ ‬لأنه مثل جذور الشجرة العملاقة متوغلة في‮ ‬عمق الأرض ولاتمتص المياه السطحية الملوثة بل المياه النقية‮.. ‬وإذا كنت سأنتمي‮ ‬إلى دولة‮ ‬يهودية فإن هذا الانتماء‮ ‬ينتهي‮ ‬إذا‮ ‬غيرت قناعتي‮ ‬وقررت اعتناق الإسلام أو المسيحية،‮ ‬وحينئذ أصبح بلا وطن‮ ‬،‮ ‬لكن الانتماء لوطن ما‮- ‬كاليمن‮ - ‬يعني‮ ‬أنني‮ ‬أنتمي‮ ‬إلى أرض محددة،‮ ‬وتاريخ طويل‮ ‬يستحيل لأحد إلغائه‮. ‬وإلى تراث ثقافي‮ ‬اشترك فيه مع جميع أبناء شعبي‮. ‬وإلى حضارة لها معالمها التي‮ ‬أعتز بها لكونها مما أنجز آبائي‮ ‬وأجدادي‮ ‬وأسلافهم‮ ‬،‮ ‬فالانتماء لليمن‮ ‬يعني‮ ‬انتماء إلى سلالة بشرية لها صفات وملامح معروفة،‮ ‬تمنحنا جميعاً‮ ‬الألفة،‮ ‬خلافاً‮ ‬للإحساس الذي‮ ‬ينتابك حين تقف بين صيني‮ ‬وروسي‮ ‬وبريطاني‮ ‬وافريقي‮ ‬وتدعي‮ ‬أننا شعب واحد لكون الجميع‮ ‬يهوداً‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬لايفهم كل منكم لغة الآخر،‮ ‬ولا‮ ‬يشابه أحدكم الآخر‮.‬

هذه الحقيقة لسنا وحدنا من‮ ‬يقولها عن أنفسنا بل هي‮ ‬الحقيقة التي‮ ‬آمن بها اليهود الصهاينة مثل‮ (‬الاشكناز‮) ‬وعلى أساسها‮ ‬يمارسون التمييز العنصري‮ ‬ضد‮ ‬يهود اليمن منذ هجرتهم الأولى لأنهم واثقون أن الأصل صعب تغيير عناصره وخواصه‮.‬

حفاظاً‮ ‬على الهوية
‮❊ ‬أبرز ما‮ ‬يميز‮ ‬يهود اليمن في‮ ‬إسرائيل هو انهم تكتلوا مع بعضهم البعض في‮ ‬مناطق معينة واعتمدوا على أنفسهم في‮ ‬صناعة حياتهم دون أن‮ ‬يسمحوا حتى للحاخامات بإدارة دور عبادتهم‮ ‬،‮ ‬لذلك انتقلت كل تفاصيل حياتهم في‮ ‬اليمن إلى مدنهم في‮ ‬إسرائيل بينما المجتمعات الأخرى اختلطت وذابت ببعضها حتى أن طائفة‮ "‬الشاكناز‮" ‬اليهودية المتطرفة منذ أكثر من ستة عقود وصفت المهاجرين اليمنيين بـ"شعب الحلبة‮"‬،‮ ‬استحقارا حتى صار بعض الجنود والموظفين الإسرائيليين عندما‮ ‬يمر بقربهم‮ ‬يمنيون‮ ‬يغلقون أنوفهم ويسخرون‮ "‬أووووف حلبة‮"‬

❊ ‬وتروي‮ : ‬العم‮ "‬علياهو اسحق‮"- ‬أحد كبار السن‮- ‬أخبرني‮ ‬أن ذلك لم‮ ‬يكن فقط للنظر لدونية اليهود اليمنيين وانما ايضاً‮ ‬لدفعهم إلى التخلي‮ ‬عن عاداتهم وتقاليدهم وكل ما‮ ‬يمت لوطنهم الأصلي‮ ‬بصلة بقصد بلورة هوية ثقافية جديدة لهم ويريدون أن‮ ‬يصبح‮ ‬يهود اليمن‮ "‬خدما‮" ‬لليهود الأوروبيين الأكثر تحصيلا للعلم والثروة،‮ ‬وحاولوا استغلال حالة الفقر لاستقطاب الشباب والفتيان في‮ ‬المدارس الدينية والصهيونية‮.. ‬لكنهم اصطدموا بمجتمع عنيد،‮ ‬ظل‮ ‬يقاوم ظروفه والسياسات العنصرية ويكابد في‮ ‬تعليم صغاره،‮ ‬حتى نجح في‮ ‬الارتقاء بنفسه ومنافسة بقية المجتمعات اليهودية في‮ ‬إسرائيل‮. ‬ويقول العم‮ "‬علياهو‮": ‬لولا أن اليمنيين تكاتفوا مع بعض ووحدوا كلمتهم وموقفهم كقبيلة واحدة لكانوا اليوم خدما لإسرائيل‮!!‬

ويروي‮ ‬أن بيوت اليمنيين في‮ ‬مدينة‮ "‬ريحوفوت‮" ‬مازالت لا تخلو حتى من‮ "‬الطبون المدر‮"‬،‮ ‬وعندما فتح أحد الأفران فرعاً‮ ‬له في‮ ‬المنطقة لبيع‮ "‬التوست‮"- ‬نوع من الخبز‮- ‬ومعجنات أخرى لم‮ ‬يصمد أكثر من شهرين حتى أغلقه لأن الأسر اليمنية تعمل حتى‮ "‬الملوج‮"!!‬

أعراس‮ ‬يمنية في‮ ‬إسرائيل
‮❊ ‬تؤكد نجاة النهاري‮ ‬أن الأعراس اليهودية ظلت كالأعراس اليمنية فالعروس لا تتمسك فقط بالحلي‮ ‬الفضية والعقيق واليلو والملابس المطرزة بخيوط الفضة،‮ ‬وعادات ليلة الحناء والشكمة فحسب،‮ ‬وانما حتى الأغاني‮ ‬التي‮ ‬ترددها النساء هي‮ ‬نفسها التي‮ ‬تردد في‮ ‬صنعاء وتغنى باللهجة الشعبية اليمنية وليس باللغة العبرية‮ ‬،‮ ‬ونظرا لجمال الزي‮ ‬اليمني‮ ‬وتطريزاته أصبحت أكبر معارض الأزياء في‮ ‬إسرائيل مؤخراً‮ ‬تقلده وتستعرض به كموضة آخر صرخة‮. ‬ونتيجة للإقبال الشديد عليه تخصصت بعض معارض الأزياء ببيع الطراز اليمني‮ ‬فقط‮.. ‬أي‮ ‬أن اليهود اليمنيين هم من أثروا بثقافة‮ ‬يهود إسرائيل ولم‮ ‬يذوبوا فيهم‮ ‬،‮ ‬وكذلك الأمر بالنسبة للحلي‮ ‬الفضية والمطعمة بالعقيق التي‮ ‬ساعد على انتشارها هجرة الحرفيين اليهود الذين كانوا مشهورين في‮ ‬اليمن‮.. ‬مشيرة إلى أن تمسك‮ ‬يهود اليمن بعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم هو وراء الكراهية لهم من قبل الطوائف اليهودية المتطرفة والتمييز العنصري‮ ‬ضدهم‮.‬

تتكفن بالزي‮ ‬الصنعاني
‮❊ ‬تحكي‮ ‬النهاري‮ ‬بألم عن اليمن فتقول‮ : ‬بعد فترة قصيرة من وصولنا إسرائيل بدأت أسمع أمي‮ ‬وهي‮ ‬تعمل أول الصباح تردد‮ (‬يمن‮ ‬يمن ما كنتي‮ ‬لي‮ ‬بخاطر‮ - ‬واليوم على حسي‮ ‬عشي‮ ‬وباكر‮) ‬وتغنيها بلحن حزين،‮ ‬ثم أراها بعد لحظات تمسح دمعة فرت من جفنها إلى خدها ثم تمضي‮ ‬دقائق شاردة الذهن كعاشقة جافاها الحبيب‮.‬

سألتها ذات‮ ‬يوم،‮ ‬لماذا تبكين‮ ‬يا أمي؟ فتنهدت بقوة ومسحت رأسي‮ ‬بكفها وانصرفت وظل الصمت هو ردها الوحيد كلما وجدت دمعاً‮ ‬على خديها‮...‬

مرت سنوات وفوجئت بنفسي‮ ‬فجر أحد الأيام أردد بصوت هاديء‮ (‬يمن‮ ‬يمن ما كنتي‮ ‬لي‮ ‬بخاطر‮ ‬
‬واليوم على حسي‮ ‬عشي‮ ‬وباكر‮)‬

‬ودمعات تنساب على خدي‮ ‬دونما أدري،‮ ‬حتى نبهتني‮ ‬أمي‮ ‬وهي‮ ‬تسألني‮: "‬ويش فيك بنتي‮ ‬تبكين؟ عسى مافي‮ ‬شرّ‮"!! ‬فقلت‮: "‬أمي‮ ‬إني‮ ‬مخنوقة راح أطق‮.. ‬رجعونا لصنعاء أنا فدالش‮ "..‬

ضمت رأسي‮ ‬إلى صدرها،‮ ‬وشعرت بدمعات ساخنة تسقط على رأسي‮ ‬وتشق طريقها بين شعري‮. ‬يومها فقط عرفت لماذا كانت أمي‮ ‬تذرف الدموع كلما ذكرت اليمن‮ ‬،‮ ‬فقد‮ ‬غلبها الحنين،‮ ‬وقهرتها الغربة،‮ ‬وسلمت أمرها للأحزان‮. ‬كانت مشغوفة بسرد ذكرياتها،‮ ‬وتتلهف لمجالس النساء عصراً،‮ ‬كي‮ ‬يسترجعن ذكريات أيام زمان‮ ‬،‮ ‬يوم كانوا‮ ‬يعيشون حياة‮ ‬يمنية بسيطة لكنهم كانوا قنوعين بها،‮ ‬وسعداء بكفاحهم في‮ ‬الحياة‮..‬

وتستطرد في‮ ‬سبتمبر‮ ‬2009م توفيت أمي،‮ ‬وفوجئت أنها قبل أن تموت‮ ‬غيرت ثوبها ولبست ثوب قطيفة قديم كانت تلبسه‮ ‬يوم‮ ‬غادرت صنعاء وظلت تحتفظ به في‮ ‬خزانتها طوال هذه السنوات فحملت رائحة وطنها إلى قبرها وأبت أن تفارقه حتى بعد الموت‮.‬

جرأة‮ ‬يمنية
‮❊ ‬وعن قصص اليهود اليمنيين تروي‮ ‬نجاة النهاري‮ ‬قائلة‮: ‬من‮ ‬يصدق أن ثمة امرأة مهاجرة لا تملك‮ ‬ثمن قوت‮ ‬يومها تجرؤ على الوقوف أمام الكنيست الإسرائيلي‮ ‬وتصرخ بوجوههم‮: "‬اللعنــــة عليكـــم وعلى إسرائيــل‮" ‬تلك الجرأة لا‮ ‬يملكها‮ ‬غير اليمنيين،‮ ‬وتلك السيدة لم تكن إلاّ‮ ‬يهودية‮ ‬يمنية تدعى‮ "‬نعيمــة النهاري‮"‬،‮ ‬وتم تغيير إسمها إلى‮ "‬لــوزة‮"‬،‮ ‬وهي‮ ‬و‮(‬12‮) ‬من أفراد أسرتها كانوا من ضحايا الخداع والتغرير الأمريكي‮ ‬بالهجرة من اليمن عام‮ ‬2004م‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬2006م انفجرت لوزة النهاري‮ ‬بوجه لجنة الاحتواء بالكنيست الإسرائيلي‮ ‬صارخة‮: (‬نادمون على تركنا أوطاننا والمجيء إلى إسرائيل‮.. ‬نريد العودة إلى اليمن‮.. ‬لا نريد منكم أكثر من شراء تذاكر سفر لنا‮.. ‬اللعنة عليكم وعلى إسرائيل‮!!).‬

ووأصلت لوزة النهاري‮ ‬رواية مأساتها بدءاً‮ ‬من منطقة‮ "‬ريدة‮" ‬بمحافظة عمران،‮ ‬ثم الهجرة إلى الولايات المتحدة عن طريق السفارة الأمريكية بصنعاء عام‮ ‬2004م،‮ ‬ثم الترحيل السري‮ ‬إلى إسرائيل حيث مركز الاستيطان في‮ "‬عسقلان‮" ‬عام‮ ‬2006م،‮ ‬وانتهاء بطلب الوكالة اليهودية منها إخلاء مسكنها بحجة وصول مهاجرين جدد أولى بالمنزل منها،‮ ‬فيما السبب الحقيقي‮ ‬كان رفضها دفع ابنائها إلى مدارس صهيونية متطرفة‮.‬

سعيد بن إسرائيل دهاري،‮ ‬هاجر من‮ "‬ريدة‮" ‬بمحافظة عمران اليمنية إلى إسرائيل في‮ ‬فبراير‮ ‬2009م،‮ ‬وكان أول ما قاله في‮ ‬مطار بن‮ ‬غوريون لوسائل الإعلام الإسرائيلية هو ما‮ ‬يلي‮: ‬

»‬نحن لسنا أبناء اليوم في‮ ‬اليمن‮. ‬اليهود موجودون في‮ ‬هذا البلد الطيب منذ عشرات القرون‮. ‬نحن‮ ‬يمنيون منذ خراب البيت الأول‮ (‬هيكل سليمان‮) ‬قبل أكثر من ألفي‮ ‬سنة‮. ‬وعلى الرغم من المضايقات التي‮ ‬تعرضنا لها من فترة إلى أخرى،‮ ‬لكن هذا لا‮ ‬يغير شيئاً‮ ‬من‮ ‬يمنيتنا‮. ‬بل إن الانتماء إلى اليمن‮ ‬يسري‮ ‬في‮ ‬عروقنا مثل الدم،‮ ‬غلاوة هذا الانتماء مثل‮ ‬غلاوة‮ ‬يهوديتنا‮. ‬نحن لنا حضور بارز في‮ ‬تاريخ اليمن وحضارته،‮ ‬منذ مملكة سبأ‮. ‬فلا‮ ‬يمكن شطب هذا التاريخ‮«.‬

حكايات حنين
‮❊ ‬مازالت نجاة النهاري‮ ‬تتذكر حكايات كثيرة عن اليمن فتروي‮ ‬ما إن قضمت قليلاً‮ ‬من قطعة‮ "‬قفوعة‮"- ‬نوع من الخبز‮- ‬حتى بدأت الفتيات في‮ ‬الفصل بالصياح‮: ‬فاطر،‮ ‬فاطر،‮ ‬فاطر‮.. ‬وسخرن مني‮ ‬لأني‮ ‬آكل في‮ ‬رمضان‮. ‬وعندما وصل الخبر لأمي‮ ‬شدت شعري‮ ‬حتى كادت تنزع فروة رأسي‮ ‬وهي‮ ‬تؤنبني،‮ ‬وأصبحت كل‮ ‬يوم تفتش شنطة كتبي‮ "‬وهي‮ ‬لم تكن سوى كيس قماش‮" ‬لئلا أكون أخذت معي‮ ‬أكلاً‮ ‬للمدرسة‮ .‬

المسلمون‮ ‬يصومون،‮ ‬وأمي‮ ‬تتوقف عن الطبخ،‮ ‬وتغدينا بخبز وقهوة،‮ ‬وتحذرنا في‮ ‬كل مرة من الأكل في‮ ‬الشارع‮. ‬وكنت دائماً‮ ‬أقول مع نفسي‮: ‬نحن‮ ‬يهود مادخلنا من رمضان‮.. ‬لكنني‮ ‬فهمت في‮ ‬سنوات أخرى أن ذلك من باب احترام مشاعر الآخرين‮.‬

كنت استمتع عصراً‮ ‬بالذهاب إلى‮ "‬المقشامة‮" ‬القريبة حيث‮ ‬يأتي‮ ‬ناس كثيرون لشراء‮ "‬البقل‮" ‬ويحدث مزاح وكلام ظريف استمتع لسماعه‮.‬

ومع أننا‮ ‬يهود كان معظم الجيران المسلمين‮ ‬يرسلون لنا أكلاً‮ ‬من فطورهم،‮ ‬وكنت أفرح لما‮ ‬يكون بينه‮ "‬قديد‮" ‬أو‮ "‬رواني‮" ‬وكنت استغرب لماذا لا‮ ‬يرسلون لنا لحماً‮ ‬بين الأكل‮.. ‬حتى اخبرتني‮ ‬أمي‮ ‬بأنهم‮ ‬يعرفون أن اليهود لا‮ ‬يأكلون اللحم إلا الذي‮ ‬يذبحه العيلوم‮!‬

كان الناس‮ ‬يسهرون في‮ ‬رمضان وأصوات المساجد لا تنقطع،‮ ‬وصنعاء تبقى في‮ ‬حركة حتى وقت الفجر،‮ ‬ويسمح لنا أهلنا بالبقاء في‮ ‬الليل خارج البيت نلعب‮.‬

كانت الحياة جميلة،‮ ‬ورغم أن الناس كلهم تقريباً‮ ‬بسطاء ليسوا أثرياء لكنني‮ ‬كنت أشعر انهم مرتاحون وراضون بعيشتهم،‮ ‬وكرماء جداً‮.. ‬وقلما كانت تحدث خصومات بين الناس،‮ ‬وحتى عندما تحدث‮ ‬يتسامحون في‮ ‬نفس اليوم وتعود الحياة طبيعية‮..‬

ذكريات المدرسة‮ ‬
‮❊ ‬وفي‮ ‬رواية ثانية تسرد نجاة النهاري‮ ‬كنت في‮ ‬الثالث الابتدائي‮ ‬بمدرسة أروى في‮ ‬صنعاء،‮ ‬وكنت أجلس على حجر ألتهم قطعة خبز وفجل على عجل من شدة الجوع حين طلبت مني‮ ‬زميلتي‮ "‬خديجة‮" ‬قطعة من الفجل فرفضت‮ ‬،‮ ‬غضبت مني‮ ‬وصاحت‮ "‬يهودية،‮ ‬يهودية الله‮ ‬يلعنك‮"‬،‮ ‬وإذا بطالبتين أخريين‮ ‬ينضمان إليها ويصرخن معاً‮ "‬يهودية،‮ ‬يهودية،‮ ‬يهودية‮.."‬،‮ ‬وبدأت أخريات‮ ‬يتجمعن حولي‮ ‬ويضحكن فيما أنا شعرت بالقهر وانفجرت باكية بدموع‮ ‬غزيرة لم تمنعهن عن مواصلة السخرية مني‮.‬

فجأة وثبت الأستاذة رجاء المصنعي‮ ‬وأمسكت بخديجة وأخرى وبدأت تصرخ عليهن وتشتمهن وتضربهن على ظهورهن‮ ‬،‮ ‬ثم التفتت إليّ‮ ‬ومدت‮ ‬يدها لتكفكف دموعي،‮ ‬وهي‮ ‬تهدئني‮ ‬بكلمات أم حنونة وتسحبني‮ ‬إلى الإدارة لتعطيني‮ ‬نصف كعكة‮ ‬،‮ ‬وأخذت تمازحني‮ ‬حتى ضحكت،‮ ‬وطلبت مني‮ ‬لو أي‮ ‬واحدة سخرت مني‮ ‬أن أخبرها‮. ‬فغمرتني‮ ‬السعادة،‮ ‬ولم أكن أتوقع أن تقوم معلمة مسلمة بمعاقبة فتيات مسلمات من أجل طفلة‮ ‬يهودية،‮ ‬وبعد ستة أعوام من ذلك تقريباً،‮ ‬أصبحت في‮ ‬منزل صغير في‮ ‬إحدى ضواحي‮ "‬تل أبيب‮"‬،‮ ‬وضاقت عيشتنا لضآلة المساعدات التي‮ ‬يمنحوها لأبي،‮ ‬وذات‮ ‬يوم سمعته‮ ‬يحدث أمي‮ ‬عن سوء المعاملة التي‮ ‬عاملوه بها في‮ ‬احدى الجهات الحكومية في‮ ‬تل أبيب،‮ ‬وقال‮: ‬إن السبب لأنهم عرفوا أنه‮ ‬يمني،‮ ‬وكنت أشعر بمرارة حديثه وحجم ألمه وهو‮ ‬يبوح لأمي‮ ‬بما حدث‮..‬

شعرت أنا أيضاً‮ ‬بالحزن والألم،،‮ ‬ولا أدري‮ ‬كيف وجدت ذاكرتي‮ ‬تسترجع تفاصيل الموقف بمدرسة أروى بصنعاء،‮ ‬وكيف اقتصت الأستاذة رجاء المصنعي‮ ‬لفتاة‮ ‬يهودية من طالباتها المسلمات رغم أنها مسلمة أيضاً‮.. ‬فبكيت مجدداً‮ ‬وأنا أقارن ذلك في‮ ‬مخيلتي‮ ‬بمعاملة اليهود في‮ ‬إسرائيل لأبي‮ ‬واستهتارهم به لمجرد أنه من أصل‮ ‬يمني‮ ‬،‮ ‬ما زلت أتذكر الأستاذة رجاء وأحفظ صورتها وأشتاق لها لحد البكاء،‮ ‬وأتذكر جيراننا وكرمهم ومواقفهم مع أبي،‮ ‬وطيب معاملتهم لنا‮.. ‬وكلما تذكرت شيئاً‮ ‬من حياتنا في‮ ‬اليمن أشعر أننا دفنا أنفسنا في‮ ‬إسرائيل‮!!‬

لذلك كنت كلما أحدث صديقاتي‮ ‬عن اليمن أجدني‮ ‬أكرر كلمة‮ (‬اليمن‮ ‬غــير‮)‬،‮ ‬حتى جعلن منها موضوع مزاح،‮ ‬فأجدهن ونحن منهمكات بحديث عن العمل‮ ‬يقلن‮: "‬اليمن‮ ‬غير‮ ‬يا ست نجاة‮"!!!!!‬

روايات‮ ‬يهود
‮❊ ‬يعيش اليهود من اليمنيين الذين وصلوا في‮ ‬التسعينيات حالة من الإحباط في‮ ‬إسرائيل،‮ ‬فهم‮ ‬يحنون إلى الوطن الأم‮ ‬،‮ ‬وقد نشرت‮ "‬نيويورك بوست‮" ‬تقريراً‮ ‬عنهم،‮ ‬وأوردت على لسان‮ "‬يحيى تسفاري‮" ‬قوله عن جيرانه المسلمين في‮ ‬اليمن‮: "‬إنهم كانوا‮ ‬يقدمون لنا سلال الفواكه من دون مقابل،‮ ‬ويتعاملون معنا بصدق وإخلاص،‮ ‬واذا كان اليهودي‮ ‬محتاجاً‮ ‬لنقود كان‮ ‬يدينه العربي‮ ‬المسلم من دون مشكلة،‮ ‬حتى انه لم‮ ‬يكن‮ ‬يطالب بنقوده إلى أن نعيدها‮. ‬هناك في‮ ‬اليمن كانت الحياة هادئة نزرع الأرض ونعتاش منها‮. ‬لم نشعر‮ ‬يوماً‮ ‬بضائقة اقتصادية مع اننا كنا نعمل نصف‮ ‬يوم‮".‬

‮"‬يونا‮" ‬زوجة‮ ‬يحيى تسفاري،‮ ‬تتمنى اللحظة التي‮ ‬تتاح لها فرصة العودة إلى اليمن،‮ ‬والسبب كما تقول في‮ ‬التقرير انها لم تعد قادرة على تحمل طبيعة الحياة اليومية في‮ ‬إسرائيل حيث قالت‮: "‬انا لا أستمتع إلا بخبز الطابون‮- ‬التنور‮- ‬في‮ ‬ساحة البيت‮. ‬هذا الأمر أزعج الجيران،‮ ‬وسبب لنا المشاكل،‮ ‬مما اضطررنا إلى إحضار طابون‮ ‬غاز داخل البيت‮. ‬ثم أن الطحين في‮ ‬إسرائيل‮ ‬غير صحي‮ ‬كما هو في‮ ‬اليمن‮. ‬لقد اشتقنا لرائحة الخبز المنتفخ‮. ‬هناك كل شيء بسيط وصحي،‮ ‬حتى المياه التي‮ ‬كنا نأخذها من البئر افضل ومفيدة اكثر من الأنابيب هنا التي‮ ‬لا تجلب إلاّ‮ ‬الحجارة للجسم‮".‬

هجرة التسعينيات
‮❊ ‬تؤكد نجاة النهاري‮ ‬انه خلال حكومة‮ "‬إسحق شامير‮" ‬مارست جمعيات‮ ‬يهودية‮ ‬يمنية في‮ ‬إسرائيل برئاسة‮ "‬افيغدور كهلاني‮" ‬ضغوطاً‮ ‬على حكومة شامير لاستقدام بقية اليهود اليمنيين‮. ‬فانتهزت الولايات المتحدة إنشغال اليمن بالأزمة السياسية بين حزبي‮ ‬المؤتمر والاشتراكي‮ ‬التي‮ ‬تأججت عام‮ ‬1992م ثم تطورت إلى حرب‮ ‬،‮ ‬فقامت خلال الفترة‮ (‬1992‮- ‬1995م‮) ‬بترحيل نحو‮ (‬800‮) ‬يهودي‮ ‬يمني‮ ‬إلى إسرائيل‮- ‬بينهم أسرتنا‮- ‬ومعظم من تم تهجيرهم تم تسكينهم في‮ ‬حي‮ "‬اوشيوت‮" ‬من مدينة‮ "‬رحوفوت‮".. ‬وقد تحول هذا الحي‮ ‬خلال الأعوام الماضية إلى نموذج مصغر لقرية‮ ‬يمنية،‮ ‬لا تفارق بيوتها‮ "‬المداعة‮"‬،‮ ‬ومقايل القات،‮ ‬والقنوات الفضائية اليمنية والعربية‮.. ‬وظلوا‮ ‬يمارسون طقوسهم اليمنية بحذافيرها حتى اليوم بما في‮ ‬ذلك عادة منع تعليم الفتاة بمدارس مختلطة،‮ ‬أو ارتدائها ملابس الموضة‮ ‬غير المستورة‮.‬

إقامة جبرية
‮❊ ‬وحول عدم عودة اليهود اليمنيين إلى وطنهم تقول‮ : ‬عادة ما تتم هجرات اليهود من بلدانهم عبر وكالات أو جمعيات‮ ‬يهودية تتبنى ترتيب كل شيء لهم‮- ‬من وثائق ونفقات‮. ‬وبالمقابل تقوم هذه الجهات بتجريد المهاجرين من جميع الوثائق التي‮ ‬يحملونها والصادرة من بلدانهم الأصلية‮.. ‬وعليه‮ ‬يعجز المهاجر إثبات جنسيته الأصلية أمام الجهات الرسمية لبلده الذي‮ ‬يعتزم العودة اليه‮.‬

بالإضافة إلى أنه عندما‮ ‬يصل المهاجرون اليهود إلى إسرائيل أو أمريكا لا‮ ‬يحصلون على المساعدات المالية مالم‮ ‬يدعي‮ ‬المهاجر أمام اللجنة أنه كان‮ ‬يتعرض للاضطهاد والتمييز وكل المعاملات السيئة من قبل حكومة البلد الذي‮ ‬قدم منه ومن المسلمين أبناء البلد ويتم تثبيت ذلك بمحضر وتوقيعه عليه‮ ‬،‮ ‬كإجراء احتياطي‮ ‬قانوني‮ ‬تدحض به إسرائيل مستقبلا اي‮ ‬ادعاء بأن هؤلاء تم تهجيرهم قسرياً،‮ ‬وأنهم قدموا فارين بحثاً‮ ‬عن العدالة الإسرائلية وإنسانيتها‮.‬

والحقيقة الأهم هي‮ ‬أن عودة اليهودي‮ ‬المهاجر إلى وطنه الأم لها بعد سياسي‮ ‬يعارض الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على إنشاء دولة من تجميع‮ ‬يهود العالم في‮ ‬فلسطين وتسهيل العودة‮ ‬يعني‮ ‬تفكيك أسس الدولة‮ .‬

‬احترم الإسلام
‮❊ ‬تقول نجاة النهاري‮ ‬أنا‮ ‬يهودية لكنني‮ ‬أحترم الإسلام وأجد فيما‮ ‬يحدثني‮ ‬عنه المسلمون دستوراً‮ ‬عظيماً‮ ‬للحياة الانسانية،‮ ‬وتمسكي‮ ‬بعقيدتي‮ ‬ليس كفراً‮ ‬كما‮ ‬يعتقد البعض،‮ ‬فقد بعث لي‮ ‬أحد الأصدقاء بنص من القرآن‮ ‬يؤكد أنه لم‮ ‬يكفر أصحاب الأديان الأخرى وقد بدأت أقرأ دراسات عن القرآن وكل‮ ‬يوم تزداد حيرتي‮ ‬أكثر وأبقى أسأل نفسي‮: ‬لماذا إذن العالم الإسلامي‮ ‬وصل إلى هذا الحال رغم أن لديه دستوراً‮ ‬دينياً‮ ‬رائعاً‮ ‬ونبياً‮ ‬عظيماً‮ ‬كان‮ ‬يجعل اليهودي‮ ‬يتبعه بسلوك صغير قبل معرفة مافي‮ ‬القرآن بينما اليوم‮ ‬ينظر‮ ‬غير المسلمين إلى المسلم بريبة وخوف‮!!‬؟

مبدعون
‮❊ (‬آشينوم نيني‮) ‬فنانة‮ ‬يهودية من أصل‮ ‬يمني‮ ‬تم تصنيفها عالمياً‮ ‬بين أشهر الناشطات الإسرائيليات‮. ‬ويصفونها بأنها‮ (‬رسول السلام‮) ‬لأنها كرست فنها للدعوة للسلام مع الشعب الفلسطيني‮. ‬وقد عرفت بجرأتها في‮ ‬انتقاد السياسة الصهيونية ضد الفلسطينيين وفي‮ ‬عام‮ ‬2009م مثلت‮ "‬نيني‮" ‬إسرائيل رسميا في‮ ‬المهرجان الأوروبي،‮ ‬وقدمت مع الفنانة‮ "‬ميرا عوض‮" ‬أغنية‮ (‬يجب أن‮ ‬يكون هناك طريقاً‮ ‬آخر‮) ‬وغنتها باللغات العربية والعبرية والانجليزية لتوجه من خلالها دعوة للإسرائيليين والفلسطينيين بأن الدماء والحروب والمعتقلات لن تحل المشكلة ولابد لهم والعالم امتلاك الجرأة في‮ ‬اقرار التعايش السلمي‮ ‬للشعبين‮.‬

(‬أشينوم نيني‮) ‬جعلت السلام‮ ‬قضية عمرها وغنت لأجله في‮ ‬كبرى القاعات العالمية في‮ ‬نيويورك،‮ ‬وباريس،‮ ‬وروما‮ ‬،‮ ‬ولندن،‮ ‬وسان فرانسيسكو‮. ‬ومهرجانات رافينيا في‮ ‬شيكاغو،‮ ‬ومونترو لموسيقى الجاز،‮ ‬وباليو الموسيقى في‮ ‬سويسرا،‮ ‬وبالاو دي‮ ‬لا ميوزيكا في‮ ‬برشلونة،‮ ‬وقاعة كاريه في‮ ‬هولندا،‮ ‬ومهرجان ستوكهولم للمياه في‮ ‬السويد،‮ ‬فضلا عن العديد من الجولات الناجحة من الأماكن والمهرجانات في‮ ‬جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة وكندا والبرازيل واليابان‮.‬

❊ ‬رافيد كحلاني،‮ ‬يمني‮ ‬في‮ ‬إسرائيل أسس الفرقة الرائعة‮ "‬يمن بلوز‮" (‬Yemen Blues‮)‬‭ ‬ويقول حول ذلك‮: "‬منذ قديم الأزل‮ ‬يعيش اليهود في‮ ‬اليمن‮": ‬ويرى أن اليهود اليمنيين كانوا جزءاً‮ ‬لا‮ ‬يتجزأ من الثقافة اليمنية،‮ ‬وان‮ "‬اليهود اليمنيين هم‮ ‬يهود عرب‮. ‬

في‮ ‬فرقته‮ "‬يمن بلوز‮" ‬يمزج كحلاني‮ ‬بجرأة بين أنواع مختلفة من الموسيقى،‮ ‬مثل الجاز والفَنك والسول،‮ ‬بل وأيضا موسيقى الغريوت من‮ ‬غرب أفريقياً،‮ ‬والتراث اليهودي‮ ‬القديم والعربي‮ ‬الإسلامي‮ ‬في‮ ‬شبه الجزيرة العربية‮.‬

أسس كَحَلاني‮ ‬فرقةً‮ ‬تواصل السير على درب تراث الأناشيد التي‮ ‬تتردد منذ مئات السنين في‮ ‬المعابد اليهودية اليمنية وتراث الموسيقى العربية التقليدية‮.
شارك الخبر