يعد الأستاذ أحمد بن محمد النعمان رائدا وقائدا بارزا في الحركة الوطنية اليمنية، ومناضلا صلبا جسورا طيلة حياته السياسية، التي ابتدأت عام 1935م ولم تنته إلا حينما خانه الرمق الأخير في منفاه الاختياري جنيف عام 1996م.
قارع النعمان الطغيان والاستبداد في العهد الإمامي، وانتقد غياب الديمقراطية والحرية في ظل الثورة، وما وهن له عزم أو تضعضع له كاهل.
هو الصانع الأول لحركة الأحرار اليمنيين، وأبو الدستور، والليبرالي المعتق الذي أسس تقاليد معارضة سياسية تدعو إلى مواطنة تربط الحقوق بالواجبات، كما تدعو إلى الحوار والتسامح ونبذ العنف، حتى عرف بـ«غاندي اليمن». وكان الشارع اليمني - ولا يزال - إذا سمع كلمة «الأستاذ» عرف أن المعني بها أحمد النعمان، الأستاذ في ثقافته ونبله ونضاله ومشوار السياسي الطويل، الذي شهده وزيرا لأكثر من وزارة، ورئيسا لأكثر من حكومة، ورئيسا لأول مجلس شورى، وعضوا في المجلس الجمهوري.
* هذا المناضل الكبير عاش فترات طويلة من حياته ما بين السجون والمنافي، وفي سنوات التيه والشتات بكى بؤس وطنه وشعبه، مستلهما العون لهما كواجب وضرورة لوضعهما في المكانة التاريخية التي يستحقانها. وقد كانت السعودية، وبالتحديد مدينة جدة، واحدة من محطات ترحاله الطويل، إذ قضى فيها ثلاثة عشر عاما، منحها من وقاره وحكمته، ومنحته استراحة المحاربين القدماء بعد سنوات من الإنهاك والتعب.
إلى مدينة جدة
* ولأنه من الصعب الإحاطة بمحطات سيرة النعمان وأدواره في التاريخ السياسي لليمن المعاصر في صفحات معدودات، فإن هذا التحقيق يتناول حياته في السعودية وعلاقاته معها، قيادة ومثقفين، فكيف ومتى قرر النعمان أن يتخذ من السعودية محطة من محطات التيه والشتات؟
كان النعمان قد اتخذ من بيروت منفى اختياريا له بعد أن استقال من رئاسة الحكومة التي شكلها عام 1971م، وقد عاش في بيروت هانئ البال، مستمتعا بهواء الحرية الذي كان يستنشقه فيها، ومنهمكا في حواراته الطويلة مع مثقفيها ومفكريها. غير أنه فجع ذات يوم من أيام 1974م ورزء باستشهاد أكبر أنجاله ومعقد آماله وشريك نضاله السياسي، ابنه محمد، الذي كان وزيرا للخارجية ونائبا لرئيس مجلس الوزراء، وقد قرر أن يتخذ من بيروت مقرا مؤقتا بجوار والده، ليستريح قليلا قبل معاودته عمله السياسي والنضالي، غير أن رصاصات الغدر والخيانة طالته ونالت منه الروح فاغتالتها، فتحامل الأب على نفسه وعاد إلى صنعاء لمواراة ابنه الثرى، وبعد أيام عاد إلى بيروت ليأخذ أحفاده وينتقل بهم إلى مكان آخر، بعد أن أضحت بيروت غابة يسرح فيها ويمرح المجرمون على اختلاف مللهم ونحلهم. ولمعرفة مدى تسامي وتسامح هذا المجاهد الكبير، أشير إلى ما تم بينه وبين الرئيس سليمان فرنجية، حينما وصل إلى بيروت والتقاه الرئيس معزيا في وفاة ابنه، فقال النعمان للرئيس فرنجية: «العزاء، يا فخامة الرئيس، يجب أن يقدم إلى لبنان، حكومة وشعبا، لأنني إذا كنت قد فقدت ولدي، فإن لبنان قد فقد أمنه واستقراره، وما جئت لكي أستعيد ولدي، بل جئت راجيا منكم استعادة أمن لبنان!».
في مطار جدة، حطت الطائرة بالأستاذ أحمد النعمان وأحفاده المكلومين، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته وفي علاقاته مع السعودية، ورغم أنه أمضى عقدا وأكثر في مدينة جدة وشكل خلالها علاقات فريدة ومتميزة مع عدد من أعيانها ووجهائها ومثقفيها، فإن علاقته مع المثقفين السعوديين تعود إلى عقود، أقدم وأرسخ، وبالتحديد في عام 1937م حينما حل في القاهرة طالبا في جامعها الأزهر الشريف، لتبدأ فصول علاقة طويلة جدا ووثيقة مع الشيخ عبد الله القصيمي، الذي كان قد طرد من الأزهر حينما حل النعمان في رحابه! ذلك أن القصيمي حينما التحق في الأزهر طالبا في عام 1927م، كان الأزهر وقتها يواجه هجوما من عدد من المثقفين المصريين، وقد انضم القصيمي إليهم، حينما اتخذ موقفا في الخلاف الذي نشب حول الوهابية، ذلك أن العالم الأزهري الشيخ يوسف الدجوي كتب عدة مقالات يدافع فيها عن شعائر تكريم الأولياء، ضمنها حججه تجاه الآراء الوهابية، منها مقالته الشهيرة «التوسل وجهالة الوهابيين»، فأصدر القصيمي أول كتاب له وهو «البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية» نقض فيه حجج الشيخ الدجوي من خلال استعراض مقولات علماء الحنابلة كابن قدامة والشوكاني وغيرهما. فكان لهذا الكتاب رد فعل عنيف لدى علماء الأزهر، الذين قرروا فصل القصيمي منه.
مع عبد الله القصيمي
* إن هذه المعركة التي خاضها القصيمي مع علماء الأزهر أكسبته شعبية واسعة، وأصبح محط أنظار الطلبة العرب الذين يفدون إلى مصر للدراسة، خاصة الطلبة اليمنيين، فما إن حط الطالب اليمني أحمد النعمان في الأزهر الشريف طالبا حتى تعرف إلى القصيمي عن طريق المجاهد الفلسطيني أبي الحسن، محمد علي الطاهر، ومجموعة من الطلبة اليمنيين، من أمثال: محمد علي الجفري، ومحمد محمود الزبيري، والشيخ محمد سالم الديحاني، وعبد الله بن علي الزبيري، الذين سبقوا النعمان إلى القاهرة، فكان عبد الله القصيمي أول سعودي يتعرف إليه النعمان ليكون بمثابة الانطلاقة له في عالم المثقفين السعوديين.
استمرت العلاقة بين القصيمي والنعمان منذ انطلاقتها في حوارات ونقاشات القاهرة عام 1937م، وإلى أن توفي القصيمي عام 1996م والنعمان يذرف عليه دموع الرحيل المر من منفاه جنيف.
جاءت معرفة النعمان بالقصيمي في نهايات المرحلة الوهابية التي توشح بها وتوجها بإصداراته التي نافح ودافع من خلالها عن الوهابية، خاصة كتابه «الثورة الوهابية» (1936م) ثم «الصراع بين الإسلام والوثنية».
يقول السفير مصطفى النعمان: «تعرف والدي على القصيمي في المرحلة الانتقالية التي عاشها القصيمي ما بين مرحلتيه المتطرفتين! وكان الوالد أيضا يعيش مرحلة تحول فكري في حياته، فلم يذهب إلى الأزهر إلا لأنه قد خرج من طور التطرف الذي عاشه وكان يمارسه مع طلابه في المدرسة التي أنشأها في الحجرية عام 1935م، وكان تحول والدي قد جاء بعد أن قرأ وبتمعن كتاب (طبائع الاستبداد) للكواكبي، وكتاب (هدي النبي)، لذلك خرج من مصر إلى مكة المكرمة حاجا، ومنها غادرها إلى الأزهر الشريف طالبا، ولم يعد إلى اليمن إلا عام 1940م بعد أن تطورت أفكاره وتغيرت كثير من قناعاته».
في عام 1955م، أجبرت الظروف السياسية في اليمن الأستاذ أحمد النعمان على الهروب منه إلى مصر، إثر فشل محاولة الانقلاب التي قام بها سيف الإسلام عبد الله على أخيه الإمام أحمد، فبقي النعمان في القاهرة إلى أن حملت إليه ريح الصبا، في صباح قاهري، خبرا أنعش فؤاده فتنفس معه الصعداء، جاءت الأخبار تحمل إلى النعمان أن مجموعة من أبنائه الضباط ثاروا على الإمام أحمد فأعلنوها ثورة يمنية على حكم استمر قرونا، لم تنفع معه الحكم والأمثال وأبيات الشعر التي كان يرددها الإمام أحمد، فكانت «ثورة سبتمبر 62».
سبعة أعوام أمضاها النعمان في القاهرة، وكان عند وصوله إليها قد أخرج منها صديقه عبد الله القصيمي ونفي إلى بيروت في صيف 1954م بطلب وإلحاح من الإمام أحمد، الذي ضغط على صلاح سالم بضرورة إبعاد عبد الله القصيمي من القاهرة بعدما توافرت لليمن معلومات عن مدى تأثر الطلاب اليمنيين بأفكاره، وهم الطلاب الذين كانوا يجاورونه السكن في ضاحية حلوان، وهم الذين سيفجرون الثورة بعد أعوام من ترحيل شيخهم ونفيه! بيد أن القصيمي سرعان ما عاد إلى القاهرة مطلع عام 1956م ليلتقي صديقه النعمان. ومنذ ذلك التاريخ وحتى بزوغ ثورة سبتمبر 62، ظل الصديقان يتحاوران ويتجادلان، وكان النعمان أحد أبرز حضور ندوة القصيمي الأسبوعية، التي كان يعقدها مساء كل جمعة ويحضرها عدد من المثقفين المصريين واليمنيين وبعض السعوديين، خاصة في السبعينات والثمانينات، الذين تعرف إليهم النعمان عبر تلك الجلسة، ومنهم الشيخ حمد الجاسر والشيخ حمد الحقيل.
بعد عودة النعمان إلى صنعاء عشية الثورة السبتمبرية عام 1962م، تسنم منصب وزير الحكم المحلي، غير أنه لم يدم في منصبه طويلا، إذ سرعان ما نفي إلى القاهرة، لمعارضته سياسة الحرب والانتقام التي سارت عليها قيادة الثورة، وفي القاهرة عاد إلى مجادله ومشاكسة صديقه القصيمي، لكنه عين عام 1964 رئيسا لأول مجلس للشورى، ثم رئيسا لمجلس الوزراء، ولم يطل به المقام فاستقال احتجاجا على إصرار القيادة على سياسة الحرب وخرق الدستور، وأيضا بسبب ضغوط عبد الناصر، الذي كان يرى أن هناك عددا من الوزراء من ذوي الانتماء البعثي كمحسن العيني يجب إخراجهم من الحكومة! وطيلة هاتين السنتين، كان النعمان على تواصل مع القاهرة، فكلما حط فيها زار صديقه القصيمي والتقاه، غير أن ما لم يكن في حسبان النعمان ورفاقه هو ما حدث لهم في عام 1966م حينما زج بهم الرئيس عبد الناصر في السجن الحربي، واحتل النعمان - بحكم أنه الأكبر بينهم - الزنزانة الانفرادية رقم 1. وبقي في السجن أكثر من عام، لم يخرج إلا بعد الهزيمة التي مني بها عبد الناصر، فكانت النكسة فاتحة خير على النعمان ورفاقه، ليعود بعد ذلك إلى يمنه ليقود المعركة من جديد. وكان النعمان في سجنه يطرق باب السجن طالبا الذهاب إلى الحمام، لكن الحارس يمنعه، فقال قولته الشهيرة: «في عهد الإمام كنا نطالب بحرية القول، وفي عهد عبد الناصر نطالب بحرية البول»! سألت الأستاذ مصطفى النعمان عن موقف القصيمي من سجن والده، وهل مارس دورا للإفراج عنه؟ فقال: «كان القصيمي مستاء جدا من سجن صديقه، لكنه لا يستطيع فعل شيء غير الألم، هناك دول حاولت ولم تستطع فعل شيء، فما بالك بالقصيمي!».
على أن الفترة الذهبية في العلاقة ما بين النعمان والقصيمي كانت بعد عام 1974م واستقرار النعمان في جدة، فكان كثيرا ما يزور القاهرة ويلتقي صديقه، وهي الفترة التي تعرف فيها القصيمي على عدد كبير من أصدقائه السعوديين، سواء في جدة أو الرياض، أو القاهرة في مجلس صديقه القصيمي.
يصف مصطفى النعمان القصيمي بأنه كان حادا ومستفزا بشكل مزعج لمن لا يعرفه، بينما كان والده - وكما هو معروف عنه - شديد السخرية، ممعنا فيها، فكان كثير من المواقف يحدث بينهما.
منذ عام 1987، كان النعمان قد استقر في جنيف لدى ابنه عبد الله، وفي يناير (كانون الثاني) 1996 ودع عبد الله القصيمي الحياة، بعد سنوات طويلة من الضجيج والصخب والجدل، وكان النعمان هو الآخر قد بدأت صحته في ذلك العام بالتردي والتدهور، ويصف ابنه مصطفى كيف تلقى والده خبر رحيل صديقه، بقوله: «حينما توفي القصيمي، كان والدي قد دخل في مرض شديد، وكثيرا ما يفقد الوعي، لكنه حتما تلقى خبر وفاة القصيمي، ولم يكن باستطاعته التفاعل معه، كان فيه شيء من الجمود». ويقول الكاتب فؤاد مطر، وهو يصف الأشهر الأخيرة من حياة النعمان: «ومع أن النعمان كان يصد بجسارة حالات الغيبوبة التي تصيبه، إلا أنه بات بعد رحيل الأعز بين أفراد جيله، الشيخ عبد الله القصيمي، يتمنى ألا ينتصر على الغيبوبة المقبلة، بمعنى أن تهزمه بدل أن يهزمها. ولأنه كان من الصعب على الذين حوله إبلاغه بوفاة الشيخ عبد الله فإنهم وضعوا أمامه عدد (الشرق الأوسط) المنشور فيه نبأ الوفاة، فضرب النعمان بيده على جبينه، واستطاعت دمعة يتيمة أن تنساب على خد الأزهري الصامد حزنا على رحيل الأزهري المتمرد. والذين أسعدتهم جلسات الشيخين الأزهريين أواخر الستينات في بيروت والقاهرة سمعوا منهما من كلام الذكريات ما يتمنى المرء لو أنه مطبوع بين دفتي كتاب».
وقد حاول النعمان مرارا مع صديقه القصيمي وتمنى عليه أن يخفف من ضجيجه وأن يلجم حدته واستفزازه، غير أن القصيمي لم يأبه ولم يلق بالا، ومع ذلك كان القصيمي يقدر ويجل النعمان، ويتضح ذلك من خلال رسائل متبادلة بينهما، ورسائل أخرى بعث بها القصيمي إلى صديق مشترك بينهما.
إلى جانب القصيمي، صاحب العلاقة الوثيقة والصداقة الطويلة، تعرف النعمان إلى عدد من المثقفين والأدباء السعوديين، وكان من أبرز أصدقائه في جدة الشاعر محمد حسن فقي، والأديب عبد الله بلخير، ومن الوجهاء كان الوجيه عمر العيسائي أبرز أصدقائه وأقربهم إلى قلبه، وكذلك الأديب عبد المقصود خوجه، ومحمد شمسان وعلي بقشان ومرعي بقشان وعبد الخالق سعيد، ومحمد عبود العمودي.
وكانت له علاقاته مع مثقفين عرب مقيمين بجدة، كالأديب أحمد الشامي وشريف الرفاعي والمفكر أحمد الشيباني، الشهير بـ«ذيبان الشمري». وفي الرياض، كانت له صداقات مع عدد من أدبائها، الذين كان يلتقيهم إذا زار الرياض، كحمد الجاسر وحمد الحقيل، اللذين تعرف إليهما في ندوة القصيمي الأسبوعية في القاهرة، وكذلك الشيخ عبد الله بن خميس، والأستاذ تركي السديري. وارتبط بعلاقة مع الشيخ ناصر المنقور، السفير السعودي لدى إسبانيا ثم بريطانيا، وكانت لقاءاتهما تتم في لندن أو جنيف، وكانت بينهما مراسلات أدبية.
في صحبة التويجري
* غير أن أهم أصدقاء النعمان في الرياض، كان الشيخ عبد العزيز التويجري، الذي ستكون له معه فصول قصة طويلة، صدقا ووفاء، وسيكون هو الأقرب إلى نفسه والأكثر نبلا معه، وستمتد العلاقة والصداقة إلى عواصم ومدن أخرى غير الرياض، كالقاهرة وجنيف، وسيكون أبناء النعمان أصدقاء لأبناء الشيخ الأديب.
يذكر مصطفى النعمان أن والده تعرف إلى الشيخ التويجري قريبا من عام 1976م، نتيجة لموقف حصل بينهما، يقول مصطفى: «كان والدي في الرياض ودعي إلى المطار لتوديع الملك خالد بن عبد العزيز، وكان واقفا في آخر الطابور، فجاء الأمير عبد الله بن عبد العزيز حينها وأخذ بيده ووضعه في مقدمة المودعين، ثم تأخرت طائرة الملك، فجاء الأمير عبد الله مرة أخرى ليعرف الوالد بالشيخ عبد العزيز، فأخبره الوالد بأنه يسمع عن التويجري كثيرا، وعلق التويجري قائلا: أنا أعرفه من سنين طويلة. فاستغرب الوالد متى وكيف عرفه؟ فقال التويجري: لقد كنت أقرأ لك وأنا في المجمعة. بعدها، حاول الوالد أن يتصل بالشيخ عبد العزيز مرة أخرى، فصعب عليه الأمر، لكنهم بدأوا بالتراسل قبل أن يلتقوا ثانية، وهو اللقاء الذي استمر إلى أن توفي الوالد، فأصبح حينها الشيخ أقرب الناس إليه عقلا وعاطفة ورعاية».
يذكر مصطفى النعمان أن العلاقة والصداقة لم تكن حصرا بين الأستاذ والشيخ، إنما تمددت لتشمل الأبناء، فلقد كان أبناء الشيخ التويجري قريبين جدا من قلب والده، خاصة عبد المحسن وخالد وعبد السلام، ويتذكر مصطفى أن الأستاذ خالد التويجري كتب في السبعينات الميلادية رسالة إلى الأستاذ النعمان، ما زال يحتفظ بها، يعرف فيها بنفسه ويبدي إعجابه بالنعمان الأب ويعتذر منه أن اقتحم عالم قامة فكرية.
لقد كانت أكثر لقاءات الشيخ والأستاذ في سويسرا، حيث كان هناك لقاء شبه يومي، وفي فترة مرض الأستاذ النعمان، كان الشيخ يأتي إليه ويحمله على الخروج معه إلى منزله. يقول مصطفى: «كان الشيخ التويجري يحس بأنه لا يمكن أن يكون من دون النعمان، وكذلك كان إحساس النعمان تجاه صديقه الكبير».
كانت جلسات الشيخ والأستاذ في غالبها ذات طابع أدبي ثقافي، فقد كان الأستاذ يقرأ على الشيخ ما قد كتبه، من شعر أو رسالة أدبية، وكان الشيخ يقرأ على الأستاذ مسودات كتبه، ليأخذ رأي النعمان فيها. كما كانا يتحدثان كثيرا عن أوضاع الأمة العربية، ويبديان أسفهما لما وصلت إليه. وفي الأرشيف الخاص بالشيخ عبد العزيز التويجري ثمة رسائل متبادلة بينهما لم تنشر إلى اليوم.
ولأن الأستاذ النعمان يتمتع بروح مرحة ودعابة ساخرة، جامعا بين وقار الشيوخ ومرح الشباب، فإن ابنه مصطفى يذكر أن عددا من المواقف الطريفة تحدث بينه والشيخ التويجري بشكل دائم، خاصة في سويسرا.
ويثمن مصطفى النعمان للشيخ التويجري مواقفه النبيلة مع والده قبلا، ثم معه ومع إخوته، فقد كان له بمثابة الأب، ويذكر مصطفى أنه سمى أحد أبنائه عبد العزيز تيمنا باسم الشيخ عبد العزيز التويجري، مذكرا بأن من أميز صفات الشيخ أنه لا يتعامل مع الناس كمسؤول رفيع، إنما تنطلق تعاملاته معهم منطلقات إنسانية وثقافية.
الاتصال الدبلوماسي
* مثلما كانت للأستاذ أحمد النعمان علاقات مميزة مع عدد من المثقفين السعوديين، كانت له علاقاته واتصالاته الدبلوماسية الرسمية مع الحكومة السعودية. وقد بدأت تلك الاتصالات منذ عام 1955م حينما رأس وفدا يمنيا رفيعا إلى الرياض للاجتماع مع المسؤولين فيها من أجل التعاون لحل مشكلة اليمن بعد حركة سيف الإسلام عبد الله ومحاولته الانقلاب على أخيه الإمام أحمد. وبعد مفاوضاته، عاد إلى صنعاء مرافقا للوفد السعودي، الذي كان برئاسة الأمير فهد بن عبد العزيز، وزير المعارف، وانضم إليهم الوفد المصري برئاسة حسين الشافعي. كما سافر أحمد النعمان أكثر من مرة مع الأمير البدر إلى الرياض والاجتماع مع المسؤولين فيها لإطلاعهم على سوء الأوضاع في اليمن وإصرار الإمام أحمد على استمرارها.
وفي عام 1973، كلفه الملك فيصل بن عبد العزيز إقناع الجنرال فرانكو بإعادة بناء جامع قرطبة وإعادته إلى سابق عهده على نفقة الحكومة السعودية، وبالفعل قابل فرانكو رفقة السفير السعودي ناصر المنقور، وتم الأمر. وكانت له علاقة مميزة مع الملك خالد بن عبد العزيز. ويذكر السفير مصطفى النعمان أن والده قد أرسل رسالة إلى الملك خالد بن عبد العزيز يقترح فيها إنشاء تجمع لدول الخليج والجزيرة العربية بما فيها اليمن، وكانت الرسالة قبل إنشاء مجلس التعاون الخليجي. وفي عام 1991، سعى إلى تحسين العلاقات بين السعودية واليمن إثر ما شابها من فتور من جراء الغزو العراقي للكويت ووقوف الحكومة اليمنية مع العراق.
وظل النعمان طيلة مسيرته، حيثما كان، محل تقدير واهتمام المسؤولين السعوديين، خاصة الملك عبد الله بن عبد العزيز، لذلك حينما عبرت طائرة الرئاسة اليمنية الأجواء السعودية في سبتمبر 1996 قادمة من جنيف، حاملة الجثمان المسجى، وعليها سنان أبو لحوم ومجاهد أبو الشوارب ومحسن العيني وأبناء الراحل، بادرت القيادة السعودية بتقديم واجب العزاء لآل النعمان، كما عبر أصدقاؤه السعوديون، من مثقفين ووجهاء، عن حزنهم الكبير لرحيله. وكان يوم مواراته الثرى يوما مشهودا في تاريخ اليمن، وفي ما تلاه توشحت صحف اليمن بالمقالات والقصائد الرثائية من جيل يمني تكون تحت جناحه. فلئن كان النعمان قد تبوأ مناصب رفيعة، إلا أنه لم يستمد مكانته المرموقة من تلك المناصب، رغم أهميتها، إنما من أدواره التاريخية كرائد ومجاهد وسياسي محنك وأديب وحكيم من حكماء اليمن.
وفي الختام، يرى بعض محبيه أن مأساته الحقيقية تكمن في بقاء الأماني والأحلام دون تحقيق! وتلك هي أيضا مأساة اليمن في تاريخه الحديث.
*الشرق الأوسط
قارع النعمان الطغيان والاستبداد في العهد الإمامي، وانتقد غياب الديمقراطية والحرية في ظل الثورة، وما وهن له عزم أو تضعضع له كاهل.
هو الصانع الأول لحركة الأحرار اليمنيين، وأبو الدستور، والليبرالي المعتق الذي أسس تقاليد معارضة سياسية تدعو إلى مواطنة تربط الحقوق بالواجبات، كما تدعو إلى الحوار والتسامح ونبذ العنف، حتى عرف بـ«غاندي اليمن». وكان الشارع اليمني - ولا يزال - إذا سمع كلمة «الأستاذ» عرف أن المعني بها أحمد النعمان، الأستاذ في ثقافته ونبله ونضاله ومشوار السياسي الطويل، الذي شهده وزيرا لأكثر من وزارة، ورئيسا لأكثر من حكومة، ورئيسا لأول مجلس شورى، وعضوا في المجلس الجمهوري.
* هذا المناضل الكبير عاش فترات طويلة من حياته ما بين السجون والمنافي، وفي سنوات التيه والشتات بكى بؤس وطنه وشعبه، مستلهما العون لهما كواجب وضرورة لوضعهما في المكانة التاريخية التي يستحقانها. وقد كانت السعودية، وبالتحديد مدينة جدة، واحدة من محطات ترحاله الطويل، إذ قضى فيها ثلاثة عشر عاما، منحها من وقاره وحكمته، ومنحته استراحة المحاربين القدماء بعد سنوات من الإنهاك والتعب.
إلى مدينة جدة
* ولأنه من الصعب الإحاطة بمحطات سيرة النعمان وأدواره في التاريخ السياسي لليمن المعاصر في صفحات معدودات، فإن هذا التحقيق يتناول حياته في السعودية وعلاقاته معها، قيادة ومثقفين، فكيف ومتى قرر النعمان أن يتخذ من السعودية محطة من محطات التيه والشتات؟
كان النعمان قد اتخذ من بيروت منفى اختياريا له بعد أن استقال من رئاسة الحكومة التي شكلها عام 1971م، وقد عاش في بيروت هانئ البال، مستمتعا بهواء الحرية الذي كان يستنشقه فيها، ومنهمكا في حواراته الطويلة مع مثقفيها ومفكريها. غير أنه فجع ذات يوم من أيام 1974م ورزء باستشهاد أكبر أنجاله ومعقد آماله وشريك نضاله السياسي، ابنه محمد، الذي كان وزيرا للخارجية ونائبا لرئيس مجلس الوزراء، وقد قرر أن يتخذ من بيروت مقرا مؤقتا بجوار والده، ليستريح قليلا قبل معاودته عمله السياسي والنضالي، غير أن رصاصات الغدر والخيانة طالته ونالت منه الروح فاغتالتها، فتحامل الأب على نفسه وعاد إلى صنعاء لمواراة ابنه الثرى، وبعد أيام عاد إلى بيروت ليأخذ أحفاده وينتقل بهم إلى مكان آخر، بعد أن أضحت بيروت غابة يسرح فيها ويمرح المجرمون على اختلاف مللهم ونحلهم. ولمعرفة مدى تسامي وتسامح هذا المجاهد الكبير، أشير إلى ما تم بينه وبين الرئيس سليمان فرنجية، حينما وصل إلى بيروت والتقاه الرئيس معزيا في وفاة ابنه، فقال النعمان للرئيس فرنجية: «العزاء، يا فخامة الرئيس، يجب أن يقدم إلى لبنان، حكومة وشعبا، لأنني إذا كنت قد فقدت ولدي، فإن لبنان قد فقد أمنه واستقراره، وما جئت لكي أستعيد ولدي، بل جئت راجيا منكم استعادة أمن لبنان!».
في مطار جدة، حطت الطائرة بالأستاذ أحمد النعمان وأحفاده المكلومين، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته وفي علاقاته مع السعودية، ورغم أنه أمضى عقدا وأكثر في مدينة جدة وشكل خلالها علاقات فريدة ومتميزة مع عدد من أعيانها ووجهائها ومثقفيها، فإن علاقته مع المثقفين السعوديين تعود إلى عقود، أقدم وأرسخ، وبالتحديد في عام 1937م حينما حل في القاهرة طالبا في جامعها الأزهر الشريف، لتبدأ فصول علاقة طويلة جدا ووثيقة مع الشيخ عبد الله القصيمي، الذي كان قد طرد من الأزهر حينما حل النعمان في رحابه! ذلك أن القصيمي حينما التحق في الأزهر طالبا في عام 1927م، كان الأزهر وقتها يواجه هجوما من عدد من المثقفين المصريين، وقد انضم القصيمي إليهم، حينما اتخذ موقفا في الخلاف الذي نشب حول الوهابية، ذلك أن العالم الأزهري الشيخ يوسف الدجوي كتب عدة مقالات يدافع فيها عن شعائر تكريم الأولياء، ضمنها حججه تجاه الآراء الوهابية، منها مقالته الشهيرة «التوسل وجهالة الوهابيين»، فأصدر القصيمي أول كتاب له وهو «البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية» نقض فيه حجج الشيخ الدجوي من خلال استعراض مقولات علماء الحنابلة كابن قدامة والشوكاني وغيرهما. فكان لهذا الكتاب رد فعل عنيف لدى علماء الأزهر، الذين قرروا فصل القصيمي منه.
مع عبد الله القصيمي
* إن هذه المعركة التي خاضها القصيمي مع علماء الأزهر أكسبته شعبية واسعة، وأصبح محط أنظار الطلبة العرب الذين يفدون إلى مصر للدراسة، خاصة الطلبة اليمنيين، فما إن حط الطالب اليمني أحمد النعمان في الأزهر الشريف طالبا حتى تعرف إلى القصيمي عن طريق المجاهد الفلسطيني أبي الحسن، محمد علي الطاهر، ومجموعة من الطلبة اليمنيين، من أمثال: محمد علي الجفري، ومحمد محمود الزبيري، والشيخ محمد سالم الديحاني، وعبد الله بن علي الزبيري، الذين سبقوا النعمان إلى القاهرة، فكان عبد الله القصيمي أول سعودي يتعرف إليه النعمان ليكون بمثابة الانطلاقة له في عالم المثقفين السعوديين.
استمرت العلاقة بين القصيمي والنعمان منذ انطلاقتها في حوارات ونقاشات القاهرة عام 1937م، وإلى أن توفي القصيمي عام 1996م والنعمان يذرف عليه دموع الرحيل المر من منفاه جنيف.
جاءت معرفة النعمان بالقصيمي في نهايات المرحلة الوهابية التي توشح بها وتوجها بإصداراته التي نافح ودافع من خلالها عن الوهابية، خاصة كتابه «الثورة الوهابية» (1936م) ثم «الصراع بين الإسلام والوثنية».
يقول السفير مصطفى النعمان: «تعرف والدي على القصيمي في المرحلة الانتقالية التي عاشها القصيمي ما بين مرحلتيه المتطرفتين! وكان الوالد أيضا يعيش مرحلة تحول فكري في حياته، فلم يذهب إلى الأزهر إلا لأنه قد خرج من طور التطرف الذي عاشه وكان يمارسه مع طلابه في المدرسة التي أنشأها في الحجرية عام 1935م، وكان تحول والدي قد جاء بعد أن قرأ وبتمعن كتاب (طبائع الاستبداد) للكواكبي، وكتاب (هدي النبي)، لذلك خرج من مصر إلى مكة المكرمة حاجا، ومنها غادرها إلى الأزهر الشريف طالبا، ولم يعد إلى اليمن إلا عام 1940م بعد أن تطورت أفكاره وتغيرت كثير من قناعاته».
في عام 1955م، أجبرت الظروف السياسية في اليمن الأستاذ أحمد النعمان على الهروب منه إلى مصر، إثر فشل محاولة الانقلاب التي قام بها سيف الإسلام عبد الله على أخيه الإمام أحمد، فبقي النعمان في القاهرة إلى أن حملت إليه ريح الصبا، في صباح قاهري، خبرا أنعش فؤاده فتنفس معه الصعداء، جاءت الأخبار تحمل إلى النعمان أن مجموعة من أبنائه الضباط ثاروا على الإمام أحمد فأعلنوها ثورة يمنية على حكم استمر قرونا، لم تنفع معه الحكم والأمثال وأبيات الشعر التي كان يرددها الإمام أحمد، فكانت «ثورة سبتمبر 62».
سبعة أعوام أمضاها النعمان في القاهرة، وكان عند وصوله إليها قد أخرج منها صديقه عبد الله القصيمي ونفي إلى بيروت في صيف 1954م بطلب وإلحاح من الإمام أحمد، الذي ضغط على صلاح سالم بضرورة إبعاد عبد الله القصيمي من القاهرة بعدما توافرت لليمن معلومات عن مدى تأثر الطلاب اليمنيين بأفكاره، وهم الطلاب الذين كانوا يجاورونه السكن في ضاحية حلوان، وهم الذين سيفجرون الثورة بعد أعوام من ترحيل شيخهم ونفيه! بيد أن القصيمي سرعان ما عاد إلى القاهرة مطلع عام 1956م ليلتقي صديقه النعمان. ومنذ ذلك التاريخ وحتى بزوغ ثورة سبتمبر 62، ظل الصديقان يتحاوران ويتجادلان، وكان النعمان أحد أبرز حضور ندوة القصيمي الأسبوعية، التي كان يعقدها مساء كل جمعة ويحضرها عدد من المثقفين المصريين واليمنيين وبعض السعوديين، خاصة في السبعينات والثمانينات، الذين تعرف إليهم النعمان عبر تلك الجلسة، ومنهم الشيخ حمد الجاسر والشيخ حمد الحقيل.
بعد عودة النعمان إلى صنعاء عشية الثورة السبتمبرية عام 1962م، تسنم منصب وزير الحكم المحلي، غير أنه لم يدم في منصبه طويلا، إذ سرعان ما نفي إلى القاهرة، لمعارضته سياسة الحرب والانتقام التي سارت عليها قيادة الثورة، وفي القاهرة عاد إلى مجادله ومشاكسة صديقه القصيمي، لكنه عين عام 1964 رئيسا لأول مجلس للشورى، ثم رئيسا لمجلس الوزراء، ولم يطل به المقام فاستقال احتجاجا على إصرار القيادة على سياسة الحرب وخرق الدستور، وأيضا بسبب ضغوط عبد الناصر، الذي كان يرى أن هناك عددا من الوزراء من ذوي الانتماء البعثي كمحسن العيني يجب إخراجهم من الحكومة! وطيلة هاتين السنتين، كان النعمان على تواصل مع القاهرة، فكلما حط فيها زار صديقه القصيمي والتقاه، غير أن ما لم يكن في حسبان النعمان ورفاقه هو ما حدث لهم في عام 1966م حينما زج بهم الرئيس عبد الناصر في السجن الحربي، واحتل النعمان - بحكم أنه الأكبر بينهم - الزنزانة الانفرادية رقم 1. وبقي في السجن أكثر من عام، لم يخرج إلا بعد الهزيمة التي مني بها عبد الناصر، فكانت النكسة فاتحة خير على النعمان ورفاقه، ليعود بعد ذلك إلى يمنه ليقود المعركة من جديد. وكان النعمان في سجنه يطرق باب السجن طالبا الذهاب إلى الحمام، لكن الحارس يمنعه، فقال قولته الشهيرة: «في عهد الإمام كنا نطالب بحرية القول، وفي عهد عبد الناصر نطالب بحرية البول»! سألت الأستاذ مصطفى النعمان عن موقف القصيمي من سجن والده، وهل مارس دورا للإفراج عنه؟ فقال: «كان القصيمي مستاء جدا من سجن صديقه، لكنه لا يستطيع فعل شيء غير الألم، هناك دول حاولت ولم تستطع فعل شيء، فما بالك بالقصيمي!».
على أن الفترة الذهبية في العلاقة ما بين النعمان والقصيمي كانت بعد عام 1974م واستقرار النعمان في جدة، فكان كثيرا ما يزور القاهرة ويلتقي صديقه، وهي الفترة التي تعرف فيها القصيمي على عدد كبير من أصدقائه السعوديين، سواء في جدة أو الرياض، أو القاهرة في مجلس صديقه القصيمي.
يصف مصطفى النعمان القصيمي بأنه كان حادا ومستفزا بشكل مزعج لمن لا يعرفه، بينما كان والده - وكما هو معروف عنه - شديد السخرية، ممعنا فيها، فكان كثير من المواقف يحدث بينهما.
منذ عام 1987، كان النعمان قد استقر في جنيف لدى ابنه عبد الله، وفي يناير (كانون الثاني) 1996 ودع عبد الله القصيمي الحياة، بعد سنوات طويلة من الضجيج والصخب والجدل، وكان النعمان هو الآخر قد بدأت صحته في ذلك العام بالتردي والتدهور، ويصف ابنه مصطفى كيف تلقى والده خبر رحيل صديقه، بقوله: «حينما توفي القصيمي، كان والدي قد دخل في مرض شديد، وكثيرا ما يفقد الوعي، لكنه حتما تلقى خبر وفاة القصيمي، ولم يكن باستطاعته التفاعل معه، كان فيه شيء من الجمود». ويقول الكاتب فؤاد مطر، وهو يصف الأشهر الأخيرة من حياة النعمان: «ومع أن النعمان كان يصد بجسارة حالات الغيبوبة التي تصيبه، إلا أنه بات بعد رحيل الأعز بين أفراد جيله، الشيخ عبد الله القصيمي، يتمنى ألا ينتصر على الغيبوبة المقبلة، بمعنى أن تهزمه بدل أن يهزمها. ولأنه كان من الصعب على الذين حوله إبلاغه بوفاة الشيخ عبد الله فإنهم وضعوا أمامه عدد (الشرق الأوسط) المنشور فيه نبأ الوفاة، فضرب النعمان بيده على جبينه، واستطاعت دمعة يتيمة أن تنساب على خد الأزهري الصامد حزنا على رحيل الأزهري المتمرد. والذين أسعدتهم جلسات الشيخين الأزهريين أواخر الستينات في بيروت والقاهرة سمعوا منهما من كلام الذكريات ما يتمنى المرء لو أنه مطبوع بين دفتي كتاب».
وقد حاول النعمان مرارا مع صديقه القصيمي وتمنى عليه أن يخفف من ضجيجه وأن يلجم حدته واستفزازه، غير أن القصيمي لم يأبه ولم يلق بالا، ومع ذلك كان القصيمي يقدر ويجل النعمان، ويتضح ذلك من خلال رسائل متبادلة بينهما، ورسائل أخرى بعث بها القصيمي إلى صديق مشترك بينهما.
إلى جانب القصيمي، صاحب العلاقة الوثيقة والصداقة الطويلة، تعرف النعمان إلى عدد من المثقفين والأدباء السعوديين، وكان من أبرز أصدقائه في جدة الشاعر محمد حسن فقي، والأديب عبد الله بلخير، ومن الوجهاء كان الوجيه عمر العيسائي أبرز أصدقائه وأقربهم إلى قلبه، وكذلك الأديب عبد المقصود خوجه، ومحمد شمسان وعلي بقشان ومرعي بقشان وعبد الخالق سعيد، ومحمد عبود العمودي.
وكانت له علاقاته مع مثقفين عرب مقيمين بجدة، كالأديب أحمد الشامي وشريف الرفاعي والمفكر أحمد الشيباني، الشهير بـ«ذيبان الشمري». وفي الرياض، كانت له صداقات مع عدد من أدبائها، الذين كان يلتقيهم إذا زار الرياض، كحمد الجاسر وحمد الحقيل، اللذين تعرف إليهما في ندوة القصيمي الأسبوعية في القاهرة، وكذلك الشيخ عبد الله بن خميس، والأستاذ تركي السديري. وارتبط بعلاقة مع الشيخ ناصر المنقور، السفير السعودي لدى إسبانيا ثم بريطانيا، وكانت لقاءاتهما تتم في لندن أو جنيف، وكانت بينهما مراسلات أدبية.
في صحبة التويجري
* غير أن أهم أصدقاء النعمان في الرياض، كان الشيخ عبد العزيز التويجري، الذي ستكون له معه فصول قصة طويلة، صدقا ووفاء، وسيكون هو الأقرب إلى نفسه والأكثر نبلا معه، وستمتد العلاقة والصداقة إلى عواصم ومدن أخرى غير الرياض، كالقاهرة وجنيف، وسيكون أبناء النعمان أصدقاء لأبناء الشيخ الأديب.
يذكر مصطفى النعمان أن والده تعرف إلى الشيخ التويجري قريبا من عام 1976م، نتيجة لموقف حصل بينهما، يقول مصطفى: «كان والدي في الرياض ودعي إلى المطار لتوديع الملك خالد بن عبد العزيز، وكان واقفا في آخر الطابور، فجاء الأمير عبد الله بن عبد العزيز حينها وأخذ بيده ووضعه في مقدمة المودعين، ثم تأخرت طائرة الملك، فجاء الأمير عبد الله مرة أخرى ليعرف الوالد بالشيخ عبد العزيز، فأخبره الوالد بأنه يسمع عن التويجري كثيرا، وعلق التويجري قائلا: أنا أعرفه من سنين طويلة. فاستغرب الوالد متى وكيف عرفه؟ فقال التويجري: لقد كنت أقرأ لك وأنا في المجمعة. بعدها، حاول الوالد أن يتصل بالشيخ عبد العزيز مرة أخرى، فصعب عليه الأمر، لكنهم بدأوا بالتراسل قبل أن يلتقوا ثانية، وهو اللقاء الذي استمر إلى أن توفي الوالد، فأصبح حينها الشيخ أقرب الناس إليه عقلا وعاطفة ورعاية».
يذكر مصطفى النعمان أن العلاقة والصداقة لم تكن حصرا بين الأستاذ والشيخ، إنما تمددت لتشمل الأبناء، فلقد كان أبناء الشيخ التويجري قريبين جدا من قلب والده، خاصة عبد المحسن وخالد وعبد السلام، ويتذكر مصطفى أن الأستاذ خالد التويجري كتب في السبعينات الميلادية رسالة إلى الأستاذ النعمان، ما زال يحتفظ بها، يعرف فيها بنفسه ويبدي إعجابه بالنعمان الأب ويعتذر منه أن اقتحم عالم قامة فكرية.
لقد كانت أكثر لقاءات الشيخ والأستاذ في سويسرا، حيث كان هناك لقاء شبه يومي، وفي فترة مرض الأستاذ النعمان، كان الشيخ يأتي إليه ويحمله على الخروج معه إلى منزله. يقول مصطفى: «كان الشيخ التويجري يحس بأنه لا يمكن أن يكون من دون النعمان، وكذلك كان إحساس النعمان تجاه صديقه الكبير».
كانت جلسات الشيخ والأستاذ في غالبها ذات طابع أدبي ثقافي، فقد كان الأستاذ يقرأ على الشيخ ما قد كتبه، من شعر أو رسالة أدبية، وكان الشيخ يقرأ على الأستاذ مسودات كتبه، ليأخذ رأي النعمان فيها. كما كانا يتحدثان كثيرا عن أوضاع الأمة العربية، ويبديان أسفهما لما وصلت إليه. وفي الأرشيف الخاص بالشيخ عبد العزيز التويجري ثمة رسائل متبادلة بينهما لم تنشر إلى اليوم.
ولأن الأستاذ النعمان يتمتع بروح مرحة ودعابة ساخرة، جامعا بين وقار الشيوخ ومرح الشباب، فإن ابنه مصطفى يذكر أن عددا من المواقف الطريفة تحدث بينه والشيخ التويجري بشكل دائم، خاصة في سويسرا.
ويثمن مصطفى النعمان للشيخ التويجري مواقفه النبيلة مع والده قبلا، ثم معه ومع إخوته، فقد كان له بمثابة الأب، ويذكر مصطفى أنه سمى أحد أبنائه عبد العزيز تيمنا باسم الشيخ عبد العزيز التويجري، مذكرا بأن من أميز صفات الشيخ أنه لا يتعامل مع الناس كمسؤول رفيع، إنما تنطلق تعاملاته معهم منطلقات إنسانية وثقافية.
الاتصال الدبلوماسي
* مثلما كانت للأستاذ أحمد النعمان علاقات مميزة مع عدد من المثقفين السعوديين، كانت له علاقاته واتصالاته الدبلوماسية الرسمية مع الحكومة السعودية. وقد بدأت تلك الاتصالات منذ عام 1955م حينما رأس وفدا يمنيا رفيعا إلى الرياض للاجتماع مع المسؤولين فيها من أجل التعاون لحل مشكلة اليمن بعد حركة سيف الإسلام عبد الله ومحاولته الانقلاب على أخيه الإمام أحمد. وبعد مفاوضاته، عاد إلى صنعاء مرافقا للوفد السعودي، الذي كان برئاسة الأمير فهد بن عبد العزيز، وزير المعارف، وانضم إليهم الوفد المصري برئاسة حسين الشافعي. كما سافر أحمد النعمان أكثر من مرة مع الأمير البدر إلى الرياض والاجتماع مع المسؤولين فيها لإطلاعهم على سوء الأوضاع في اليمن وإصرار الإمام أحمد على استمرارها.
وفي عام 1973، كلفه الملك فيصل بن عبد العزيز إقناع الجنرال فرانكو بإعادة بناء جامع قرطبة وإعادته إلى سابق عهده على نفقة الحكومة السعودية، وبالفعل قابل فرانكو رفقة السفير السعودي ناصر المنقور، وتم الأمر. وكانت له علاقة مميزة مع الملك خالد بن عبد العزيز. ويذكر السفير مصطفى النعمان أن والده قد أرسل رسالة إلى الملك خالد بن عبد العزيز يقترح فيها إنشاء تجمع لدول الخليج والجزيرة العربية بما فيها اليمن، وكانت الرسالة قبل إنشاء مجلس التعاون الخليجي. وفي عام 1991، سعى إلى تحسين العلاقات بين السعودية واليمن إثر ما شابها من فتور من جراء الغزو العراقي للكويت ووقوف الحكومة اليمنية مع العراق.
وظل النعمان طيلة مسيرته، حيثما كان، محل تقدير واهتمام المسؤولين السعوديين، خاصة الملك عبد الله بن عبد العزيز، لذلك حينما عبرت طائرة الرئاسة اليمنية الأجواء السعودية في سبتمبر 1996 قادمة من جنيف، حاملة الجثمان المسجى، وعليها سنان أبو لحوم ومجاهد أبو الشوارب ومحسن العيني وأبناء الراحل، بادرت القيادة السعودية بتقديم واجب العزاء لآل النعمان، كما عبر أصدقاؤه السعوديون، من مثقفين ووجهاء، عن حزنهم الكبير لرحيله. وكان يوم مواراته الثرى يوما مشهودا في تاريخ اليمن، وفي ما تلاه توشحت صحف اليمن بالمقالات والقصائد الرثائية من جيل يمني تكون تحت جناحه. فلئن كان النعمان قد تبوأ مناصب رفيعة، إلا أنه لم يستمد مكانته المرموقة من تلك المناصب، رغم أهميتها، إنما من أدواره التاريخية كرائد ومجاهد وسياسي محنك وأديب وحكيم من حكماء اليمن.
وفي الختام، يرى بعض محبيه أن مأساته الحقيقية تكمن في بقاء الأماني والأحلام دون تحقيق! وتلك هي أيضا مأساة اليمن في تاريخه الحديث.
*الشرق الأوسط