الوطن كله صار على المحك، الثقافة والفكر تحديداً في مهب الريح، جحافل التضييق والقولبة تزأر في عنف وكراهية، المشهد شديد القتامة والريبة، الأمر إذاً يحتاج إلى (حكيم) نستقطر من كلماته (روشتة الخلاص)، و(نوراً) يتقدمنا لاقتحام ذلك النفق المظلم الذي استطال بأكثر مما يجب، والأمر أيضاً يحتاج إلى (مرجعية) نعود إليها لنبحث لديها عن (بوصلة الاتجاه) الصحيح، ورشد ورشاد التوجه المستنير، وفي هذا الظرف الضاغط، فإن الحكمة والمرجعية يتجسدان في شخص أستاذنا محمد حسنين هيكل، ولأن الأمر أعمق وأصعب من كونه (أزمة سياسة)، ولكنه (أزمة ثقافة وهوية)، فقد حسمنا أمرنا وقررنا أن نتحاور مع الأستاذ حول الثقافة والفكر والأدب والإبداع، وكلها (حبات عقد) إذا ما انتظمت حددت ملامح (الهوية المصرية)، تلك الهوية التي اتسمت دوماً برحابة الفكر، وتعددية الرؤى، وتلاقح الأفكار، والنفور من القولبة .
وقد كان الأستاذ - كعادته- سخياً وكريماً حيث استضافنا على مدى جلستين طويلتين - يفصل بينهما أسبوع - واستمع باهتمام إلى كل أسئلتنا، وكان كعادته أيضا، مرتب الفكر، صافي الذهن، واضح الرؤى، صادق التوجه، حيث قدم من خلال إجاباته الكثير والكثير ليس عن الماضي فقط ولكن عن الحاضر والمستقبل . . ونشعر بكثير من الامتنان والتقدير للأستاذ لأنه خصنا بهذا الحوار المهم والذي نزعم أنه قد جاء في وقته تماماً .
* في المدة من 31 يوليو/تموز 1957 وحتى 2 فبراير/شباط 1974 استطاع الأستاذ هيكل أن يقدم تجربة فارقة في تاريخ الصحافة والثقافة من خلال رئاسة تحرير جريدة “الأهرام”، فكيف لكاتب غارق في السياسة بكل خلاياه أن يكون واعياً بهذه الدرجة اللافتة إلى أهمية الثقافة؟
- الأستاذ: أعتقد أنه لا توجد سياسة من دون ثقافة، وإذا فصلت الثقافة من السياسة تحولت إلى سلطة، حيث لا فرق بين رئيس الدولة وضابط البوليس، لأن ما يفرق الاثنين هو البعد السياسي الذي يكمن خلف الفكرة السياسية، والشيء الأهم والحاكم هو موقع مصر، فأمامك أوروبا على الشاطئ الآخر، وأنت بين إفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية قادم جديد، هذا الموقع الحاكم جعلني دوماً أؤمن بأن الثقافة ليست بعيدة أبداً عن السياسة، وأنه لا ظهير للسياسة إلا الثقافة .
* هذا الإيمان بالثقافة جعلك تنشئ الدور السادس ب”الأهرام” أو كما أسميه “الدور الساحر” ذلك الدور الذي جمع عمالقة الأدب والفكر من كل الاتجاهات السياسية والفكرية، وكأنك كنت حريصاً على إبراز التعددية في ثقافة مصر، أو على الأقل إنشاء “هايد بارك” لكل الأفكار والرؤى؟
- الأستاذ: سألني توفيق الحكيم عندما عرضت عليه الانضمام ل”الأهرام” لماذا تريدني في “الأهرام”؟ وكان متشككاً باستمرار، فقلت له لا أريد منك شيئاً أبداً، فسوف تحصل على راتب يساوي خمسة آلاف جنيه في السنة - وهو نفس الراتب الذي كنت أتقاضاه في “الأهرام” - وذلك لمجرد أن تتناول “الغداء” في مطعم “الأهرام” يومياً . . فسألني، ومن سيدفع حساب الغداء؟
فقلت له: “الأهرام” سيدفع، فقال متعجباً: وأحصل على راتبي مقابل ذلك فقط؟ فقلت له نعم بشرط أن يجلس معك كل يوم خمسة أو ستة من شباب “الأهرام” تدعوهم على “الغداء” وتتناقش معهم لكي ينهلوا من ثقافتك، وكنت أهدف من وراء ذلك أن ننقل الثقافة إلى الناس، لأن الثقافة مثل السياسة إذا لم تكن لمصلحة الجماهير فلا قيمة لها .
وكان الحكيم أول أديب كبير أستعين به في “الأهرام”، وذهبت بعد ذلك إلى طه حسين في بيته “رامتان” بشارع الهرم، وعرضت عليه الانضمام ل”الأهرام”، ولكن خلافاته مع الحكيم جعله يعتذر قائلاً: “أنت يا سيدي لا تعرف غير صديقنا توفيق الحكيم، وأدعو الله ألا تخدع فيه كما خدعنا فيه”، وكان طه حسين يمتلك “اعتزاز المفكر” فاعتذر وقبلت اعتذاره، وهذا لم يمنعني من الإصرار على الإتيان بكبار الأدباء مثل نجيب محفوظ .
* اشترط الأديب الكبير نجيب محفوظ ألا يعمل في “الأهرام” إلا بعد إحالته إلى المعاش وظيفياً؟
- الأستاذ: نعم حدث ذلك، وقد استطاع نجيب محفوظ ومعه كبار الكتّاب أن يقدموا على صفحات “الأهرام” الجزء الأكبر مما لديهم، ولكن الشيء المهم أننا أعطيناهم المناخ الجديد الذي يمنحهم حرية الكلام والنقد، فكل النقد الذي كتبه نجيب محفوظ أيام عبدالناصر مثل: “ثرثرة فوق النيل”، و”اللص والكلاب”، و”أولاد حارتنا”، كان خلال صفحات “الأهرام” .
* كانت شجاعة كبيرة أن تتصدى لنشر “أولاد حارتنا” على صفحات “الأهرام”؟
- الأستاذ: لم تكن “أولاد حارتنا” فقط هي التي أثارت الكثير من الجدل والهجوم على “الأهرام”، ولكن رواية “بنك القلق” للحكيم أثارت جدلاً أكبر، حيث احتج عبدالحكيم عامر بشدة ووصل الخلاف بيننا إلى نقاش حاد أمام عبدالناصر، حيث أكد عامر أن الحكيم يقصد نقد المخابرات، ولكن عبدالناصر كعادته حسم الموضوع بهدوء حيث قال لعامر، إذا كان توفيق الحكيم كتب في العصر الإقطاعي السابق “يوميات نائب في الأرياف” وقال رأيه في الأحوال الاجتماعية المصرية في ذلك الوقت، ولم يتصد له أحد، فهل يعقل أنه عندما ينتقد بعض الأوضاع بعد الثورة أن نتصدى له . المهم أن “الأهرام” حرص على وجود كبار الأدباء والمفكرين مثل: زكي نجيب محمود - يوسف إدريس - لويس عوض - عبدالرحمن الشرقاوي، والدكتورة بنت الشاطئ .
ونعود لموضوعنا الأساسي عن علاقة السياسة بالثقافة لأؤكد لك بأن الثقافة هي الظهير الحقيقي للسياسة - ومصر بطبيعتها موصولة بالعالم، وعلى كل واحد في مكانه أن يحاول بناء ولو “خلية”، وأنا لا أدعي بأنني بنيت ولكني جمعت كل هؤلاء الأدباء المفكرين معاً، انطلاقاً من إيماني بأن الثقافة ليست مسألة محلية، فمجموعة القيم السائدة في كل عصر موصولة بثقافات العالم كله، وإذا لم نكن جزءاً من الحركة الثقافية والفكرية في العالم، فمعنى ذلك أننا نقف “محلك سر” .
* اخترت توفيق الحكيم للقيام بدور محدد ومهم، فهل كانت هذه “القصدية” تحكم كل اختياراتك لمجموعة الأدباء والمفكرين الذين كوَّنوا كتيبة “الأهرام” المرعبة؟
- الأستاذ: ليست مرعبة ولكنها “مُطَمْئِنة” .
* أقصد مرعبة باجتماعها في مكان واحد؟
- الأستاذ: إذا كنت تتكلم عن ثقافة شعب فلابد أن تكون جميع تياراته موجودة، فالبعد الإسلامي كانت تمثله الدكتورة عائشة عبدالرحمن “بنت الشاطئ”، وتوفيق الحكيم كان يمثل فكراً آخر هو الوسطية، ويوسف إدريس متأثر جداً بالأدب الإسباني، وعبدالرحمن الشرقاوي يمثل اليسار، وهكذا فإن هذه المجموعة من كبار المفكرين والأدباء تمثل “تكامل الثقافة المصرية” وأيضاً تمثل الانفتاح والاحتكاك بكل ثقافات العالم الأخرى، من خلال التواصل مع كل المدارس الأدبية والفكرية، وهذا التواصل مع الآخر هو ما كنا ومازلنا في أشد الاحتياج إليه .
* بعيداً عن كوكبة الأدباء استطعت اجتذاب مجموعة من المفكرين والفنانين مثل زكي نجيب محمود وحسين فوزي والفنان التشكيلي صلاح طاهر والفنان صلاح جاهين؟
- الأستاذ: من أكثر الأشياء التي أعتز بإنجازها خلال فترة رئاستي لتحرير “الأهرام”، تلك المجموعة المتميزة من اللوحات الفنية، ولم يقتصر دورنا على مجرد “الاقتناء”، ولكن كنا نشجع وندعم الفنانين المبدعين، فمثلاً الخزاف الشهير محيي الدين حسين عينته في “الأهرام” وأعطيته تفرغاً، ليس من أجل تحرير “الأهرام” أو تقديم ورق مكتوب، ولكن من أجل أن يخرج “شعاع ضوء” في سماء الفن والإبداع، فيجب أن ينطلق ضوء كاف خلف كل كلمة، فالكلمات ليست مجرد حبر على ورق، فالكلمة بشكل أو بآخر يجب أن تكون شعاعاً ينير الطريق أمام الناس، فأنت عندما تدخل “الأهرام” وتصافح عيناك تلك اللوحات الجميلة، فهذا شيء يسعدك بكل تأكيد، وأذكر أن الاتحاد الاشتراكي قلب الدنيا بسبب هذه اللوحات وما يدفعه “الأهرام” من أجل شرائها، فذهبت إليهم وهاجمتهم وقلت لهم عليكم أن تغضبوا إذا كنتم تدفعون ثمن هذه اللوحات، ولكن “الأهرام جورنال” يستطيع أن يغطي مصاريفه وحتى شطحاته، فإذا طلبنا منكم المساعدة فمن حقكم الاعتراض - وقد صنعنا جريدة ناجحة ومعبرة عن الناس، وهذا ما نستطيع أن نؤديه تجاه بلدنا، ولا توجد لكم سلطة علينا خاصة أنكم لا تقومون بتمويلنا، وليس في مقدور الدولة أو الاتحاد الاشتراكي الادعاء بتمويل شراء هذه اللوحات، التي اشتريناها من أموال “الأهرام”، وهذه اللوحات الموجودة الآن في “الأهرام” تمثل واحداً من أهم أصول “الأهرام”، حيث تساوي عشرات الملايين من الجنيهات .
* الإنجازات العظيمة التي حققها “الأهرام” على يديك ربما تتصادم مع كونك واحداً من أبناء “الأخبار” انطلاقاً من الاختلاف الواضح بين الجريدتين؟
- الأستاذ: “الأهرام” لم تكن مشروعاً مصرياً خالصاً عند بدايتها، فهي ثمرة للتعاون المصري - الشامي، وأنا أحد المؤمنين بضرورة التواصل المصري الشامي في كل وقت وحين، وعندما اقترح علي باشا الشمسي على عائلة تقلا أن أصبح رئيساً لتحرير “الأهرام” لإقالتها من عثرتها في ذلك الوقت، بدا الترشيح غريباً بالنسبة لهم، لأنهم لم يتصوروا أن يأخذوا رئيس تحرير عمره 32 سنة فقط، وقد ساعدني امتلاكي لاتجاه مختلف عن اتجاهات “الأخبار”، فعندما تقرأ ما كنت أكتبه في ذلك الوقت ستجده مختلفاً، والحقيقة أنني لم أكن وحدي فنحن جيل تأثر بالحرب العالمية الثانية ومناخها، وأظن أن هذه الحرب قد أتت بالعالم إلى مصر، وأخرجت مصر إلى العالم، وعندما ذهبت إلى “الأهرام” قدمت شيئاً جديداً انطلاقاً مما كنت أمثله كجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانطلاقا من تجاربي في تغطية الحروب والأحداث الساخنة في العالم، وأذكر عندما ذهبت إلى حرب البلقان لم يكن أحد في “الأخبار” متحمساً لذهابي بمن فيهم أستاذي محمد التابعي، الذي كان يقول وماذا ستفعلون في هذا الأمر - ولم يساندني إلا “علي أمين” - وقد تغيرت الدنيا بعد الحرب العالمية الثانية خاصة بعد استخدام السلاح النووي، والجيل الذي سبقنا في الصحافة المصرية كان مشغولاً بقضايا الداخل، وخاصة الحركة الوطنية المهتمة بالاستقلال، أما جيلنا فخرج خارج الحدود وانشغل بقضايا العالم المختلفة .
* نعود إلى ذلك “الدور الساحر” أو الدور السادس في “الأهرام”، فهل تأثرت في ذلك بأستاذك محمد التابعي الذي كان يجمع بين اهتمامه بالسياسة واهتمامه بالثقافة والفن؟
- الأستاذ: الأستاذ محمد التابعي كان مدرسة مختلفة، فعندما تنظر إلى مراحل تطور الصحافة، فأول مرحلة كانت مع رفاعه الطهطاوي الذي اهتم بالترجمة، التي كانت وسيلة ربطنا بالعالم الخارجي، ثم جاءت مرحلة محمد عبده ولطفي السيد وهي المرحلة التي اهتمت بتجديد الفكر الإسلامي، الشيخ محمد عبده يعبر عن روح العصر، ولطفي السيد يبحث عن منابع الثقافة الغربية في الفلسفة “الفلسفة الإغريقية بالتحديد”، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة صحافة الخطابة بداية من مصطفى كامل وحتى سعد زغلول، وهي مرحلة العمل السياسي والفكر السياسي، وأتذكر آخر خطبة ألقاها سعد زغلول وكانت في شبرا التي قال فيها “يعز عليَّ أن أرى منبر الخطابة منصوباً ولا أستطيع له رقياً، وأن أجد مجال القول واسعاً ولا أجد له لساناً فتياً”، ولأننا كنا في مرحلة طلب الاستقلال فكان من الطبيعي أن تلجأ الصحافة إلى الحجج القانونية والخطابية والبلاغية لتعبئة الرأي العام، ثم جاءت بعد ذلك تجربة البرجوازية الصغيرة، وهي صحافة تهتم بما قاله فلان وبما عملته فلانة، وهي بشكل عام تهتم بالطبقة المتوسطة .
صحافة النميمة؟
- الأستاذ: ليست نميمة بالضبط، وبعد دستور 1923 الذي انحاز لطبقة ملاك الأراضي، اتجهت الصحافة إلى الثرثرة، حتى دخلت الجيوش في الحرب العالمية الثانية إلى مصر . وبشكل عام ظلت الصحافة متأثرة بالخطابة والترجمة، فعندما تقرأ المكتوب في ذلك الوقت تجد العبارة الجزلة والتعبيرات الرصينة والسجع والجناس والطباق وكل المحسنات البديعية - حتى جاء الأستاذ التابعي بأسلوبه الساحر الذي وضع أسلوب السرد والحكاية، وهي المدرسة التي تأثر بها بعد ذلك مصطفى أمين، ويظهر ذلك جلياً في كتابه “ماذا جرى بين الوفد والقصر” فالكتاب مملوء بالحكايات الفرعية المهمة والتي تكون في النهاية صورة متكاملة للأحداث، المهم أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت مدرسة ما بعد الحرب وبدأت الأفكار اليسارية والاشتراكية في الظهور، وبدأ العالم يموج بأشياء كثيرة مما حتم تغير لغة الصحافة، وهذا ما استطاع الأستاذ التابعي استثماره ليضع بصمته الخاصة على لغة الصحافة .
وقد تأثرت بالأستاذ التابعي ولكني احتفظت بأسلوبي الخاص، وأذكر عندما رشحني الأستاذ علي الشمسي لرئاسة تحرير “الأهرام” أني طلبت نسبة 2،5% من الأرباح فرفض أصحاب الجريدة، وقالوا إن “الأهرام” قد خسر كثيراً خلال السنوات العشر السابقة، فقلت إن الأمر لن يكلفكم شيئاً، فإذا حققت أرباحاً أحصل على 2 .5% منها فوافقوا على مضض، وكتب العقد المحامي الأستاذ مصطفى مرعي، وألغيت هذه الميزة عند صدور تنظيم الحد الأعلى للأجور . المهم أننا استطعنا بعد عام ونصف العام فقط إنهاء الخسائر وتحقيق أرباح لا بأس بها، وأصبحت الجريدة بشكل أو بآخر ملكاً للعاملين بها، خاصة بعد أن نجحنا في إصدار قانون تنظيم الصحافة وليس “تأميم الصحافة” الذي يمنح العمال بشكل مباشر نصف أرباح المؤسسة . أما النصف الآخر فيتم تخصيصه لعملية الإحلال والتجديد في المطابع وغيرها من مستلزمات الإنتاج، وقد استطاع هذا القانون أن يحدد علاقة المؤسسات الصحفية بمؤسسات الدولة المختلفة والتي يفصل بيننا وبينهم “الدستور”، وكانت مؤسسة الأخبار معنا في هذا الإطار . وقد خرج هذا القانون بالأساس من جريدة “الأهرام” .
* أعتقد أننا اليوم في أشد الاحتياج إلى تلك الأفكار وبخاصة ونحن في سبيلنا إلى دستور جديد وقانون جديد للصحافة أيضا؟
- الأستاذ: نحن في الحقيقة بحاجة إلى أشياء كثيرة وخاصة في المرحلة الحالية، ولذلك نقدم ملامح التجربة القديمة لتكون نبراساً لمن يصفون ملامح التجربة الجديدة، وأعود إلى “الأهرام” بعد أن توليت مسؤولية رئاسة التحرير بها، حيث استقامت ظروفها المالية، وأصبحت حريصة على أداء دور فاعل في المنظومة المصرية كلها، وقد حرصنا طوال الوقت أنا ومن معي أن نكوّن جريدة من طراز مختلف، وقد حرصت في اجتماعي الأول مع أسرة “الأهرام” على التأكيد بأننا جريدة مهمتنا الأساسية هي نشر الأخبار وتحليلها والتعليق عليها، والغريب أن أغلبية من يكتبون الآن يعلقون على الأخبار من دون أن يعرفوا فحوى هذه الأخبار .
* وهذا يعود بنا إلى القاعدة المهنية المهمة التي ذكرتها فيما سبق عن أنه لا رأي إلا على قاعدة خبرية؟
- الأستاذ: هذه القاعدة مهمة جداً، وأعتقد أن المهنية هي سر النجاح، وقد استطعنا تحقيق سمعة إخبارية جيدة ل”الأهرام”، ما أدى إلى وجود استقلالية مالية وربحية قابلة للاتساع، وطوال الوقت لم يغفل “الأهرام” البعد الثقافي، فالثقافة كما ذكرت هي الظهير الحقيقي للسياسة، والثقافة ليست محلية ولكنها عالمية والأدق أنها إنسانية بالدرجة الأولى، وتستطيع بتضافرها مع السياسة أن تحقق لك الانتشار المطلوب كجريدة، ولذلك كنت حريصاً على انضمام توفيق الحكيم إلى أسرة “الأهرام”، على أن يتقاضى راتباً مثل راتبي تماماً مقابل الجلوس مع الشباب كل يوم، وكل ما يكتبه بعد ذلك يتقاضى عنه أجراً جديداً . ولذلك فقد كان الحكيم يحصل على ضعف أو ضعفين قيمة راتبي كل سنة، وقد كنت رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة “الأهرام” و(ستار ريبوتر) - كبير المراسلين - وكاتب مقال أسبوعي وكل هذا مقابل 250 جنيهاً شهرياً فقط، وكانت مقالتي تباع بالخارج مقابل 1000 جنيه إسترليني نصفها ل”الأهرام” ونصفها الآخر لي، ولولا هذا ما استطعت أن أعيش، لقد كنت أعطى ل”الأهرام” أكثر كثيراً مما آخذ منه .
* نعود إلى “الدور الساحر” أو الدور السادس ذلك الدور الذي جمع نخبة المفكرين والمبدعين، ومن بينهم نجيب محفوظ، لأتساءل هل صحيح أنك منعت اعتقال نجيب محفوظ بعد أن كانت سيارات الأمن على بعد خطوات من بيته؟
- الأستاذ: هذه خرافة رددها الكثيرون، والحقيقة أنه لم يفكر أحد في اعتقال نجيب في أي وقت من الأوقات، أولا لأن جمال عبدالناصر كان يعرف قيمة وقدر نجيب محفوظ، ويعلم أنه يستطيع أن يعاتبني على بعض الأشياء التي يكتبها نجيب محفوظ وغيره من كتاب “الأهرام” .
وثانياً: لأنني كرئيس تحرير لم أكن أسمح بذلك أبداً، لأنني أرى دور رئيس التحرير يتخطى مجرد قدرته على تجنيد الكتّاب المهمين وإدارة الجريدة، لأن دوره الأهم هو حماية الجريدة وكل كتّابها، ولم أقبل أبداً أن يتحدث أحد أو يؤذي محرراً في “الأهرام”، وكان الجميع يعلمون أن من يريد التحدث إلى أي شخص في “الأهرام” بخصوص أي أخطاء أو مشاكل فعليه أن يتحدث مع رئيس التحرير فقط، وأذكر أنني في اجتماعي الأول مع أسرة تحرير “الأهرام” - أتمنى لو استطعت الحصول على محاضر هذا الاجتماع - قلت لهم بوضوح إنني أعلم أن بعض الجالسين معنا إما على اتصال بالاتحاد القومي أو بالمباحث أو بالمخابرات، وأنا أريد مندوبين ل”الأهرام” في هذه الجهات وليس العكس، ولذلك فأمام هؤلاء مهلة لمدة شهر لقطع صلاتهم بهذه الجهات، وإلا فعليهم قطع صلتهم بالأهرام، وأذكر أيضا أن محافظ القاهرة القوي سعد زايد أهان محرر “الأهرام” فؤاد سعد في اجتماع عام، فقررت مقاطعة أخبار المحافظ حتى يعتذر للمحرر في نفس الاجتماع، ورغم شكوى سعد زايد للجهات العليا إلا أنني صممت على موقفي، وفي النهاية اعتذر محافظ القاهرة لمحرر “الأهرام” .
* طوال وجودك في “الأهرام” كنت حريصاً على تقوية الجريدة بكل المتميزين إبداعياً حتى لو تعرضت في سبيل ذلك إلى الهجوم الضاري، وقد ظهر ذلك جلياً في انتقال صلاح جاهين من روزاليوسف إلى “الأهرام”؟
- الأستاذ: صلاح جاهين فنان لا يتكرر، فهو شاعر، وممثل، وكاتب سينمائي، ورسام كاريكاتير عبقري، ومثل هذا الفنان كان لابد أن يكون موجوداً في “الأهرام”، ويكفي أنه رسام الكاريكاتير الوحيد الذي لم يكن يذهب إلى رئيس تحريره للبحث عن أفكار لرسوماته، فقد كان متدفق الأفكار وقادراً على تنفيذ أفكاره بحرفية عالية، وقد هاجموني كثيراً في روزاليوسف لأني أخذت منهم صلاح جاهين .
* ننتقل إلى الثقافة العالمية حيث تعددت علاقاتك مع العديد من كبار الأدباء والمفكرين ولكن يظل (الثلاثي الفرنسي المبدع) أندريه مالرو - جان بول سارتر - فرنسوا ميتران، أصحاب حظوة كبيرة لديك حيث ارتبطت بهم بصداقات قوية؟
- الأستاذ: هذا صحيح تماماً فقد ربطتني صداقة قوية بهؤلاء الثلاثة الكبار، وأذكر عندما دعونا سارتر إلى مصر طلبت من توفيق الحكيم أن يكون مضيفه باسم “الأهرام” ورفيقه طوال فترة وجوده في مصر، وافق الحكيم ولكنه جاءني في اليوم التالي غاضباً وقائلاً أنا لست أقل من سارتر حتى أكون مرافقاً له في رحلته إلى مصر، فقلت له أنت لست مرافقاً ولكنك المضيف باسم “الأهرام”، وتناقشنا طويلاً حتى اقتنع، واكتشفت في ما بعد أن الحكيم كان خائفاً من أن تخونه لغته الفرنسية أمام سارتر، وهذا الموقف يجعلني أتوقف أمام المصريين الذين يسافرون إلى الخارج مثل الحكيم لأجد أن أغلبهم يسافر إلى الخارج، ولكنه يظل طوال الوقت داخل الأطر المصرية فلا يحدث الاحتكاك الثقافي المطلوب، المهم جاء سارتر وحضرت المقابلة الأولى بينه وبين الحكيم، وظل الحكيم متشككاً في بداية اللقاء من لغته الفرنسية ولكنه انطلق بعد ذلك يتحدث بطلاقة، ونجحت زيارة سارتر إلى مصر كثيراً، وقد اكتشفت أن الرئيس عبدالناصر قد أرسل إلى بيروت للإتيان بكتب سارتر ليقرأها قبل أن يقابله، وهكذا كان عبدالناصر يعد نفسه لكل المواقف .
أما عن أندريه مالرو فقد كان يرى بشكل أو بآخر أن موقفي من عبدالناصر يشبه إلى حد كبير موقفه من ديغول، وهذا الاعتقاد قرّب ما بيننا أكثر، وقد تقابلنا لأول مرة في أحد مطاعم باريس وكانت معي زوجتي التي قامت بدور كبير في عملية الترجمة، ثم توطدت علاقتي به، وعندما جاء إلى مصر دعوته إلى “الأهرام” وأقمنا له ندوة كبيرة حضرها مجموعة كتّاب “الأهرام” لويس عوض - يوسف إدريس . . إلخ .
"الخليج" الاماراتية
وقد كان الأستاذ - كعادته- سخياً وكريماً حيث استضافنا على مدى جلستين طويلتين - يفصل بينهما أسبوع - واستمع باهتمام إلى كل أسئلتنا، وكان كعادته أيضا، مرتب الفكر، صافي الذهن، واضح الرؤى، صادق التوجه، حيث قدم من خلال إجاباته الكثير والكثير ليس عن الماضي فقط ولكن عن الحاضر والمستقبل . . ونشعر بكثير من الامتنان والتقدير للأستاذ لأنه خصنا بهذا الحوار المهم والذي نزعم أنه قد جاء في وقته تماماً .
* في المدة من 31 يوليو/تموز 1957 وحتى 2 فبراير/شباط 1974 استطاع الأستاذ هيكل أن يقدم تجربة فارقة في تاريخ الصحافة والثقافة من خلال رئاسة تحرير جريدة “الأهرام”، فكيف لكاتب غارق في السياسة بكل خلاياه أن يكون واعياً بهذه الدرجة اللافتة إلى أهمية الثقافة؟
- الأستاذ: أعتقد أنه لا توجد سياسة من دون ثقافة، وإذا فصلت الثقافة من السياسة تحولت إلى سلطة، حيث لا فرق بين رئيس الدولة وضابط البوليس، لأن ما يفرق الاثنين هو البعد السياسي الذي يكمن خلف الفكرة السياسية، والشيء الأهم والحاكم هو موقع مصر، فأمامك أوروبا على الشاطئ الآخر، وأنت بين إفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية قادم جديد، هذا الموقع الحاكم جعلني دوماً أؤمن بأن الثقافة ليست بعيدة أبداً عن السياسة، وأنه لا ظهير للسياسة إلا الثقافة .
* هذا الإيمان بالثقافة جعلك تنشئ الدور السادس ب”الأهرام” أو كما أسميه “الدور الساحر” ذلك الدور الذي جمع عمالقة الأدب والفكر من كل الاتجاهات السياسية والفكرية، وكأنك كنت حريصاً على إبراز التعددية في ثقافة مصر، أو على الأقل إنشاء “هايد بارك” لكل الأفكار والرؤى؟
- الأستاذ: سألني توفيق الحكيم عندما عرضت عليه الانضمام ل”الأهرام” لماذا تريدني في “الأهرام”؟ وكان متشككاً باستمرار، فقلت له لا أريد منك شيئاً أبداً، فسوف تحصل على راتب يساوي خمسة آلاف جنيه في السنة - وهو نفس الراتب الذي كنت أتقاضاه في “الأهرام” - وذلك لمجرد أن تتناول “الغداء” في مطعم “الأهرام” يومياً . . فسألني، ومن سيدفع حساب الغداء؟
فقلت له: “الأهرام” سيدفع، فقال متعجباً: وأحصل على راتبي مقابل ذلك فقط؟ فقلت له نعم بشرط أن يجلس معك كل يوم خمسة أو ستة من شباب “الأهرام” تدعوهم على “الغداء” وتتناقش معهم لكي ينهلوا من ثقافتك، وكنت أهدف من وراء ذلك أن ننقل الثقافة إلى الناس، لأن الثقافة مثل السياسة إذا لم تكن لمصلحة الجماهير فلا قيمة لها .
وكان الحكيم أول أديب كبير أستعين به في “الأهرام”، وذهبت بعد ذلك إلى طه حسين في بيته “رامتان” بشارع الهرم، وعرضت عليه الانضمام ل”الأهرام”، ولكن خلافاته مع الحكيم جعله يعتذر قائلاً: “أنت يا سيدي لا تعرف غير صديقنا توفيق الحكيم، وأدعو الله ألا تخدع فيه كما خدعنا فيه”، وكان طه حسين يمتلك “اعتزاز المفكر” فاعتذر وقبلت اعتذاره، وهذا لم يمنعني من الإصرار على الإتيان بكبار الأدباء مثل نجيب محفوظ .
* اشترط الأديب الكبير نجيب محفوظ ألا يعمل في “الأهرام” إلا بعد إحالته إلى المعاش وظيفياً؟
- الأستاذ: نعم حدث ذلك، وقد استطاع نجيب محفوظ ومعه كبار الكتّاب أن يقدموا على صفحات “الأهرام” الجزء الأكبر مما لديهم، ولكن الشيء المهم أننا أعطيناهم المناخ الجديد الذي يمنحهم حرية الكلام والنقد، فكل النقد الذي كتبه نجيب محفوظ أيام عبدالناصر مثل: “ثرثرة فوق النيل”، و”اللص والكلاب”، و”أولاد حارتنا”، كان خلال صفحات “الأهرام” .
* كانت شجاعة كبيرة أن تتصدى لنشر “أولاد حارتنا” على صفحات “الأهرام”؟
- الأستاذ: لم تكن “أولاد حارتنا” فقط هي التي أثارت الكثير من الجدل والهجوم على “الأهرام”، ولكن رواية “بنك القلق” للحكيم أثارت جدلاً أكبر، حيث احتج عبدالحكيم عامر بشدة ووصل الخلاف بيننا إلى نقاش حاد أمام عبدالناصر، حيث أكد عامر أن الحكيم يقصد نقد المخابرات، ولكن عبدالناصر كعادته حسم الموضوع بهدوء حيث قال لعامر، إذا كان توفيق الحكيم كتب في العصر الإقطاعي السابق “يوميات نائب في الأرياف” وقال رأيه في الأحوال الاجتماعية المصرية في ذلك الوقت، ولم يتصد له أحد، فهل يعقل أنه عندما ينتقد بعض الأوضاع بعد الثورة أن نتصدى له . المهم أن “الأهرام” حرص على وجود كبار الأدباء والمفكرين مثل: زكي نجيب محمود - يوسف إدريس - لويس عوض - عبدالرحمن الشرقاوي، والدكتورة بنت الشاطئ .
ونعود لموضوعنا الأساسي عن علاقة السياسة بالثقافة لأؤكد لك بأن الثقافة هي الظهير الحقيقي للسياسة - ومصر بطبيعتها موصولة بالعالم، وعلى كل واحد في مكانه أن يحاول بناء ولو “خلية”، وأنا لا أدعي بأنني بنيت ولكني جمعت كل هؤلاء الأدباء المفكرين معاً، انطلاقاً من إيماني بأن الثقافة ليست مسألة محلية، فمجموعة القيم السائدة في كل عصر موصولة بثقافات العالم كله، وإذا لم نكن جزءاً من الحركة الثقافية والفكرية في العالم، فمعنى ذلك أننا نقف “محلك سر” .
* اخترت توفيق الحكيم للقيام بدور محدد ومهم، فهل كانت هذه “القصدية” تحكم كل اختياراتك لمجموعة الأدباء والمفكرين الذين كوَّنوا كتيبة “الأهرام” المرعبة؟
- الأستاذ: ليست مرعبة ولكنها “مُطَمْئِنة” .
* أقصد مرعبة باجتماعها في مكان واحد؟
- الأستاذ: إذا كنت تتكلم عن ثقافة شعب فلابد أن تكون جميع تياراته موجودة، فالبعد الإسلامي كانت تمثله الدكتورة عائشة عبدالرحمن “بنت الشاطئ”، وتوفيق الحكيم كان يمثل فكراً آخر هو الوسطية، ويوسف إدريس متأثر جداً بالأدب الإسباني، وعبدالرحمن الشرقاوي يمثل اليسار، وهكذا فإن هذه المجموعة من كبار المفكرين والأدباء تمثل “تكامل الثقافة المصرية” وأيضاً تمثل الانفتاح والاحتكاك بكل ثقافات العالم الأخرى، من خلال التواصل مع كل المدارس الأدبية والفكرية، وهذا التواصل مع الآخر هو ما كنا ومازلنا في أشد الاحتياج إليه .
* بعيداً عن كوكبة الأدباء استطعت اجتذاب مجموعة من المفكرين والفنانين مثل زكي نجيب محمود وحسين فوزي والفنان التشكيلي صلاح طاهر والفنان صلاح جاهين؟
- الأستاذ: من أكثر الأشياء التي أعتز بإنجازها خلال فترة رئاستي لتحرير “الأهرام”، تلك المجموعة المتميزة من اللوحات الفنية، ولم يقتصر دورنا على مجرد “الاقتناء”، ولكن كنا نشجع وندعم الفنانين المبدعين، فمثلاً الخزاف الشهير محيي الدين حسين عينته في “الأهرام” وأعطيته تفرغاً، ليس من أجل تحرير “الأهرام” أو تقديم ورق مكتوب، ولكن من أجل أن يخرج “شعاع ضوء” في سماء الفن والإبداع، فيجب أن ينطلق ضوء كاف خلف كل كلمة، فالكلمات ليست مجرد حبر على ورق، فالكلمة بشكل أو بآخر يجب أن تكون شعاعاً ينير الطريق أمام الناس، فأنت عندما تدخل “الأهرام” وتصافح عيناك تلك اللوحات الجميلة، فهذا شيء يسعدك بكل تأكيد، وأذكر أن الاتحاد الاشتراكي قلب الدنيا بسبب هذه اللوحات وما يدفعه “الأهرام” من أجل شرائها، فذهبت إليهم وهاجمتهم وقلت لهم عليكم أن تغضبوا إذا كنتم تدفعون ثمن هذه اللوحات، ولكن “الأهرام جورنال” يستطيع أن يغطي مصاريفه وحتى شطحاته، فإذا طلبنا منكم المساعدة فمن حقكم الاعتراض - وقد صنعنا جريدة ناجحة ومعبرة عن الناس، وهذا ما نستطيع أن نؤديه تجاه بلدنا، ولا توجد لكم سلطة علينا خاصة أنكم لا تقومون بتمويلنا، وليس في مقدور الدولة أو الاتحاد الاشتراكي الادعاء بتمويل شراء هذه اللوحات، التي اشتريناها من أموال “الأهرام”، وهذه اللوحات الموجودة الآن في “الأهرام” تمثل واحداً من أهم أصول “الأهرام”، حيث تساوي عشرات الملايين من الجنيهات .
* الإنجازات العظيمة التي حققها “الأهرام” على يديك ربما تتصادم مع كونك واحداً من أبناء “الأخبار” انطلاقاً من الاختلاف الواضح بين الجريدتين؟
- الأستاذ: “الأهرام” لم تكن مشروعاً مصرياً خالصاً عند بدايتها، فهي ثمرة للتعاون المصري - الشامي، وأنا أحد المؤمنين بضرورة التواصل المصري الشامي في كل وقت وحين، وعندما اقترح علي باشا الشمسي على عائلة تقلا أن أصبح رئيساً لتحرير “الأهرام” لإقالتها من عثرتها في ذلك الوقت، بدا الترشيح غريباً بالنسبة لهم، لأنهم لم يتصوروا أن يأخذوا رئيس تحرير عمره 32 سنة فقط، وقد ساعدني امتلاكي لاتجاه مختلف عن اتجاهات “الأخبار”، فعندما تقرأ ما كنت أكتبه في ذلك الوقت ستجده مختلفاً، والحقيقة أنني لم أكن وحدي فنحن جيل تأثر بالحرب العالمية الثانية ومناخها، وأظن أن هذه الحرب قد أتت بالعالم إلى مصر، وأخرجت مصر إلى العالم، وعندما ذهبت إلى “الأهرام” قدمت شيئاً جديداً انطلاقاً مما كنت أمثله كجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانطلاقا من تجاربي في تغطية الحروب والأحداث الساخنة في العالم، وأذكر عندما ذهبت إلى حرب البلقان لم يكن أحد في “الأخبار” متحمساً لذهابي بمن فيهم أستاذي محمد التابعي، الذي كان يقول وماذا ستفعلون في هذا الأمر - ولم يساندني إلا “علي أمين” - وقد تغيرت الدنيا بعد الحرب العالمية الثانية خاصة بعد استخدام السلاح النووي، والجيل الذي سبقنا في الصحافة المصرية كان مشغولاً بقضايا الداخل، وخاصة الحركة الوطنية المهتمة بالاستقلال، أما جيلنا فخرج خارج الحدود وانشغل بقضايا العالم المختلفة .
* نعود إلى ذلك “الدور الساحر” أو الدور السادس في “الأهرام”، فهل تأثرت في ذلك بأستاذك محمد التابعي الذي كان يجمع بين اهتمامه بالسياسة واهتمامه بالثقافة والفن؟
- الأستاذ: الأستاذ محمد التابعي كان مدرسة مختلفة، فعندما تنظر إلى مراحل تطور الصحافة، فأول مرحلة كانت مع رفاعه الطهطاوي الذي اهتم بالترجمة، التي كانت وسيلة ربطنا بالعالم الخارجي، ثم جاءت مرحلة محمد عبده ولطفي السيد وهي المرحلة التي اهتمت بتجديد الفكر الإسلامي، الشيخ محمد عبده يعبر عن روح العصر، ولطفي السيد يبحث عن منابع الثقافة الغربية في الفلسفة “الفلسفة الإغريقية بالتحديد”، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة صحافة الخطابة بداية من مصطفى كامل وحتى سعد زغلول، وهي مرحلة العمل السياسي والفكر السياسي، وأتذكر آخر خطبة ألقاها سعد زغلول وكانت في شبرا التي قال فيها “يعز عليَّ أن أرى منبر الخطابة منصوباً ولا أستطيع له رقياً، وأن أجد مجال القول واسعاً ولا أجد له لساناً فتياً”، ولأننا كنا في مرحلة طلب الاستقلال فكان من الطبيعي أن تلجأ الصحافة إلى الحجج القانونية والخطابية والبلاغية لتعبئة الرأي العام، ثم جاءت بعد ذلك تجربة البرجوازية الصغيرة، وهي صحافة تهتم بما قاله فلان وبما عملته فلانة، وهي بشكل عام تهتم بالطبقة المتوسطة .
صحافة النميمة؟
- الأستاذ: ليست نميمة بالضبط، وبعد دستور 1923 الذي انحاز لطبقة ملاك الأراضي، اتجهت الصحافة إلى الثرثرة، حتى دخلت الجيوش في الحرب العالمية الثانية إلى مصر . وبشكل عام ظلت الصحافة متأثرة بالخطابة والترجمة، فعندما تقرأ المكتوب في ذلك الوقت تجد العبارة الجزلة والتعبيرات الرصينة والسجع والجناس والطباق وكل المحسنات البديعية - حتى جاء الأستاذ التابعي بأسلوبه الساحر الذي وضع أسلوب السرد والحكاية، وهي المدرسة التي تأثر بها بعد ذلك مصطفى أمين، ويظهر ذلك جلياً في كتابه “ماذا جرى بين الوفد والقصر” فالكتاب مملوء بالحكايات الفرعية المهمة والتي تكون في النهاية صورة متكاملة للأحداث، المهم أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت مدرسة ما بعد الحرب وبدأت الأفكار اليسارية والاشتراكية في الظهور، وبدأ العالم يموج بأشياء كثيرة مما حتم تغير لغة الصحافة، وهذا ما استطاع الأستاذ التابعي استثماره ليضع بصمته الخاصة على لغة الصحافة .
وقد تأثرت بالأستاذ التابعي ولكني احتفظت بأسلوبي الخاص، وأذكر عندما رشحني الأستاذ علي الشمسي لرئاسة تحرير “الأهرام” أني طلبت نسبة 2،5% من الأرباح فرفض أصحاب الجريدة، وقالوا إن “الأهرام” قد خسر كثيراً خلال السنوات العشر السابقة، فقلت إن الأمر لن يكلفكم شيئاً، فإذا حققت أرباحاً أحصل على 2 .5% منها فوافقوا على مضض، وكتب العقد المحامي الأستاذ مصطفى مرعي، وألغيت هذه الميزة عند صدور تنظيم الحد الأعلى للأجور . المهم أننا استطعنا بعد عام ونصف العام فقط إنهاء الخسائر وتحقيق أرباح لا بأس بها، وأصبحت الجريدة بشكل أو بآخر ملكاً للعاملين بها، خاصة بعد أن نجحنا في إصدار قانون تنظيم الصحافة وليس “تأميم الصحافة” الذي يمنح العمال بشكل مباشر نصف أرباح المؤسسة . أما النصف الآخر فيتم تخصيصه لعملية الإحلال والتجديد في المطابع وغيرها من مستلزمات الإنتاج، وقد استطاع هذا القانون أن يحدد علاقة المؤسسات الصحفية بمؤسسات الدولة المختلفة والتي يفصل بيننا وبينهم “الدستور”، وكانت مؤسسة الأخبار معنا في هذا الإطار . وقد خرج هذا القانون بالأساس من جريدة “الأهرام” .
* أعتقد أننا اليوم في أشد الاحتياج إلى تلك الأفكار وبخاصة ونحن في سبيلنا إلى دستور جديد وقانون جديد للصحافة أيضا؟
- الأستاذ: نحن في الحقيقة بحاجة إلى أشياء كثيرة وخاصة في المرحلة الحالية، ولذلك نقدم ملامح التجربة القديمة لتكون نبراساً لمن يصفون ملامح التجربة الجديدة، وأعود إلى “الأهرام” بعد أن توليت مسؤولية رئاسة التحرير بها، حيث استقامت ظروفها المالية، وأصبحت حريصة على أداء دور فاعل في المنظومة المصرية كلها، وقد حرصنا طوال الوقت أنا ومن معي أن نكوّن جريدة من طراز مختلف، وقد حرصت في اجتماعي الأول مع أسرة “الأهرام” على التأكيد بأننا جريدة مهمتنا الأساسية هي نشر الأخبار وتحليلها والتعليق عليها، والغريب أن أغلبية من يكتبون الآن يعلقون على الأخبار من دون أن يعرفوا فحوى هذه الأخبار .
* وهذا يعود بنا إلى القاعدة المهنية المهمة التي ذكرتها فيما سبق عن أنه لا رأي إلا على قاعدة خبرية؟
- الأستاذ: هذه القاعدة مهمة جداً، وأعتقد أن المهنية هي سر النجاح، وقد استطعنا تحقيق سمعة إخبارية جيدة ل”الأهرام”، ما أدى إلى وجود استقلالية مالية وربحية قابلة للاتساع، وطوال الوقت لم يغفل “الأهرام” البعد الثقافي، فالثقافة كما ذكرت هي الظهير الحقيقي للسياسة، والثقافة ليست محلية ولكنها عالمية والأدق أنها إنسانية بالدرجة الأولى، وتستطيع بتضافرها مع السياسة أن تحقق لك الانتشار المطلوب كجريدة، ولذلك كنت حريصاً على انضمام توفيق الحكيم إلى أسرة “الأهرام”، على أن يتقاضى راتباً مثل راتبي تماماً مقابل الجلوس مع الشباب كل يوم، وكل ما يكتبه بعد ذلك يتقاضى عنه أجراً جديداً . ولذلك فقد كان الحكيم يحصل على ضعف أو ضعفين قيمة راتبي كل سنة، وقد كنت رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة “الأهرام” و(ستار ريبوتر) - كبير المراسلين - وكاتب مقال أسبوعي وكل هذا مقابل 250 جنيهاً شهرياً فقط، وكانت مقالتي تباع بالخارج مقابل 1000 جنيه إسترليني نصفها ل”الأهرام” ونصفها الآخر لي، ولولا هذا ما استطعت أن أعيش، لقد كنت أعطى ل”الأهرام” أكثر كثيراً مما آخذ منه .
* نعود إلى “الدور الساحر” أو الدور السادس ذلك الدور الذي جمع نخبة المفكرين والمبدعين، ومن بينهم نجيب محفوظ، لأتساءل هل صحيح أنك منعت اعتقال نجيب محفوظ بعد أن كانت سيارات الأمن على بعد خطوات من بيته؟
- الأستاذ: هذه خرافة رددها الكثيرون، والحقيقة أنه لم يفكر أحد في اعتقال نجيب في أي وقت من الأوقات، أولا لأن جمال عبدالناصر كان يعرف قيمة وقدر نجيب محفوظ، ويعلم أنه يستطيع أن يعاتبني على بعض الأشياء التي يكتبها نجيب محفوظ وغيره من كتاب “الأهرام” .
وثانياً: لأنني كرئيس تحرير لم أكن أسمح بذلك أبداً، لأنني أرى دور رئيس التحرير يتخطى مجرد قدرته على تجنيد الكتّاب المهمين وإدارة الجريدة، لأن دوره الأهم هو حماية الجريدة وكل كتّابها، ولم أقبل أبداً أن يتحدث أحد أو يؤذي محرراً في “الأهرام”، وكان الجميع يعلمون أن من يريد التحدث إلى أي شخص في “الأهرام” بخصوص أي أخطاء أو مشاكل فعليه أن يتحدث مع رئيس التحرير فقط، وأذكر أنني في اجتماعي الأول مع أسرة تحرير “الأهرام” - أتمنى لو استطعت الحصول على محاضر هذا الاجتماع - قلت لهم بوضوح إنني أعلم أن بعض الجالسين معنا إما على اتصال بالاتحاد القومي أو بالمباحث أو بالمخابرات، وأنا أريد مندوبين ل”الأهرام” في هذه الجهات وليس العكس، ولذلك فأمام هؤلاء مهلة لمدة شهر لقطع صلاتهم بهذه الجهات، وإلا فعليهم قطع صلتهم بالأهرام، وأذكر أيضا أن محافظ القاهرة القوي سعد زايد أهان محرر “الأهرام” فؤاد سعد في اجتماع عام، فقررت مقاطعة أخبار المحافظ حتى يعتذر للمحرر في نفس الاجتماع، ورغم شكوى سعد زايد للجهات العليا إلا أنني صممت على موقفي، وفي النهاية اعتذر محافظ القاهرة لمحرر “الأهرام” .
* طوال وجودك في “الأهرام” كنت حريصاً على تقوية الجريدة بكل المتميزين إبداعياً حتى لو تعرضت في سبيل ذلك إلى الهجوم الضاري، وقد ظهر ذلك جلياً في انتقال صلاح جاهين من روزاليوسف إلى “الأهرام”؟
- الأستاذ: صلاح جاهين فنان لا يتكرر، فهو شاعر، وممثل، وكاتب سينمائي، ورسام كاريكاتير عبقري، ومثل هذا الفنان كان لابد أن يكون موجوداً في “الأهرام”، ويكفي أنه رسام الكاريكاتير الوحيد الذي لم يكن يذهب إلى رئيس تحريره للبحث عن أفكار لرسوماته، فقد كان متدفق الأفكار وقادراً على تنفيذ أفكاره بحرفية عالية، وقد هاجموني كثيراً في روزاليوسف لأني أخذت منهم صلاح جاهين .
* ننتقل إلى الثقافة العالمية حيث تعددت علاقاتك مع العديد من كبار الأدباء والمفكرين ولكن يظل (الثلاثي الفرنسي المبدع) أندريه مالرو - جان بول سارتر - فرنسوا ميتران، أصحاب حظوة كبيرة لديك حيث ارتبطت بهم بصداقات قوية؟
- الأستاذ: هذا صحيح تماماً فقد ربطتني صداقة قوية بهؤلاء الثلاثة الكبار، وأذكر عندما دعونا سارتر إلى مصر طلبت من توفيق الحكيم أن يكون مضيفه باسم “الأهرام” ورفيقه طوال فترة وجوده في مصر، وافق الحكيم ولكنه جاءني في اليوم التالي غاضباً وقائلاً أنا لست أقل من سارتر حتى أكون مرافقاً له في رحلته إلى مصر، فقلت له أنت لست مرافقاً ولكنك المضيف باسم “الأهرام”، وتناقشنا طويلاً حتى اقتنع، واكتشفت في ما بعد أن الحكيم كان خائفاً من أن تخونه لغته الفرنسية أمام سارتر، وهذا الموقف يجعلني أتوقف أمام المصريين الذين يسافرون إلى الخارج مثل الحكيم لأجد أن أغلبهم يسافر إلى الخارج، ولكنه يظل طوال الوقت داخل الأطر المصرية فلا يحدث الاحتكاك الثقافي المطلوب، المهم جاء سارتر وحضرت المقابلة الأولى بينه وبين الحكيم، وظل الحكيم متشككاً في بداية اللقاء من لغته الفرنسية ولكنه انطلق بعد ذلك يتحدث بطلاقة، ونجحت زيارة سارتر إلى مصر كثيراً، وقد اكتشفت أن الرئيس عبدالناصر قد أرسل إلى بيروت للإتيان بكتب سارتر ليقرأها قبل أن يقابله، وهكذا كان عبدالناصر يعد نفسه لكل المواقف .
أما عن أندريه مالرو فقد كان يرى بشكل أو بآخر أن موقفي من عبدالناصر يشبه إلى حد كبير موقفه من ديغول، وهذا الاعتقاد قرّب ما بيننا أكثر، وقد تقابلنا لأول مرة في أحد مطاعم باريس وكانت معي زوجتي التي قامت بدور كبير في عملية الترجمة، ثم توطدت علاقتي به، وعندما جاء إلى مصر دعوته إلى “الأهرام” وأقمنا له ندوة كبيرة حضرها مجموعة كتّاب “الأهرام” لويس عوض - يوسف إدريس . . إلخ .
"الخليج" الاماراتية