الرئيسية / كتابات وآراء / «الاتجاه المعاكس» كسر خداع المثقفين!

«الاتجاه المعاكس» كسر خداع المثقفين!

د. أحمد عبيد بن دغر
الأحد , 01 يناير 2023 الساعة 12:00 صباحا

يبقى البرنامج الأكثر جدلا والأشد مغايرة لما كان سائدا في أساليب الإعلام العربي المسموع أو المرئي أو المكتوب منه، والذي ارتبط به التطور في الإعلام العربي المرئي عند التحول إلى الحالة الفضائية، هو برنامج الاتجاه المعاكس، باعتباره النمط المختلف عن كل ما كان موجودا من قبل على صعيد الحرفية والمهنية من وجهة نظر الإعلاميين، وباعتباره الأكثر لفتا للانتباه والأشد تحريكا للعقول والمشاعر من زاوية الاتصال والتواصل بالجمهور. لكن الاتجاه المعاكس كان بالأساس خلاصة ومحصلة الحرية التي تمتعت بها الجزيرة دون سواها، ورمز انفتاحها بلا حدود على كل الآراء (أو بالدقة على الآراء الممنوعة والمقموعة) باعتباره نمطا من حوار الاختلاف الباحث في الأوضاع العربية الحادة في تطوراتها وتناقضاتها وتحدياتها، والأوسع تعبيرا عن تعقيد وتباين وجهات النظر فيها أو حولها وبشأنها ودون مواربة أو تجمل أو حذلقة من المثقفين الذين تعودوا من قبل ظهور هذا البرنامج على أن يتحاوروا بلا مشاعر أو كانوا تعودوا أن يتحاوروا وكأنهم رموز من رموز السلطة الرسمية الذين ينبغي أن يظهروا على الرأي العام وكأنهم أباطرة يتحدثون بلغة خاصة ولا يقترب من بعضهم بعضا أو الذين يشعرون بأنهم فوق "العامة" لا يتحدثون مع بعضهم البعض، عن كل قضايا العامة أمامهم إلا وفق لغة متحذلقة متعالية حتى يظلوا متميزين عنهم، فكنت تجدهم يتحدثون عن الفقر والمجاعات والحروب والموت والدمار بلا مشاعر أو بقلوب متحجرة.هو كان البرنامج الأوفر حظا في قناة الجزيرة بالتعبير عن الخلاف الحاد في المجتمعات العربية والإسلامية التي تعيش مخاض الولادة بما فيه من الم وفرح "وارتفاع الصوت من الأم والوليد". وهو في ذلك نجح في "جرجرة" المثقفين للخروج إلى حالة من المجاهرة بآرائهم وقول الحق والصدق كله ووفق عقول حادة في وضوح المواقف،كما هو في ذات الوقت نجح في "جرجرة" الجمهور إلى مناطق كان يعتبرها الناس أنفسهم ممنوع من الاقتراب منها نتيجة قرون القهر والصمت.

قبل ظهور برنامج الاتجاه المعاكس كانت الحوارات في البرامج السياسية - والتي لم تبلغ حتى مستوى وضوح ودقة وحدة الحوارات الكروية - تجرى وكأنها حالة من حالات "متعة التسوق" إن لم تكن تجرى وفق قواعد الإلهاء، أو هي كانت حالة من حالات الصالونات المغلقة التي يظهر فيها الساسة والمثقفين على الجمهور بمساحيق النخبوية بألفاظها الناعمة وغير المحددة حتى لو كانت تتحدث عن موت الآلاف المؤلفة، كما كان المثقفون يظهرون فيها بمظهر الجالسين في الحفلات الرسمية الموسيقى منها والغنائي .ووفقا لتلك الحالة كان مطلوبا من الجمهور أن ينظر إلى ما يجرى أمامه وكأنه يشاهد ما لا يعنيه هو وما يجرى بشأنه هو وما يؤثر عليه في حياته هو - باعتبار ما يقال أعلى من قدراته على الفهم - فإذا ببرنامج يخرج الضد إلى الضد، ويحفز كل ضد على أن يكون ضدا (حتى تظهر الحقيقة) لا مناورا ولا متحذلقا ولا متوقفا في حدود الخلاف عند حدود التعبير الميت عن ما يجرى، فجاء البرنامج مفاجئا للمثقفين وواضعا لهم في موضع إنساني صحيح - من غير المدعين بامتلاك الحقيقة من المثقفين -بان اظهر لهم أن بالإمكان أن يكونوا "بشرا" مثلهم مثل كل خلق الله، وأجبرهم على الخروج من حالة "تحنيط الفكر والرأي والمواقف والشخصية،كما هو جاء مفاجئا جماهير الأمة إذ شاهدوا على الشاشات منظرا ولغة وأصواتاً مغايرة لما شاهدوه من قبل، فاكتشفوا أن الساسة والمثقفين بشر مثلهم وان السياسة والثقافة ليست حكرا على كثرة من المدعين باحتكارها، وان اعقد القضايا الفكرية يمكن طرحها ببساطة وبلغة مبسطة أيضا دون أبراج عاجية وكلام مقعر منظر، وان الخلاف في المجتمعات العربية هو خلاف حاد وكبير وحقيقي، وان الحقيقة المرة هو أن كل ما كانوا يشاهدونه من قبل في البرامج هو حالة اقرب إلى الإعلانات السياسية لا الحوارات السياسية. (اذكر بعد أول مشاركة لي في البرنامج وبعد عودتي إلى القاهرة، أن كثرة من الاتصالات الهاتفية قد واجهتني فيها أسئلة يكاد يكون المعنى فيها ثابتا: انتوا مرتبين مع بعض الحوار الشديد ده؟ وهل من المعقول أن كل واحد منكم كان يقول ما يريد دون أية حسابات؟ وهل فيه ناس عرب من أبناء جلدتنا بيتكلموا كده علنا ضد الوطنية والعروبة والإسلام؟ كان ذلك تعبير أعلى عن غياب كامل للغة الحوار ولإشراك الجمهور في قضاياه التي تصنع حاضره ومستقبله).

وقبل الاتجاه المعاكس، كان من الصعب أن يعرف الناس قدر التحول والتغير في أفكار الساسة والنخب، الذين كانوا يظهرون لهم ما يريدون أن يظهروه ويخفون عنهم ما يريدون أن يخفوه، والذين كان كل منهم أيا كان خلافه مع الآخر في غاية الحرص أن لا يكشف أفكار أو رؤى الآخر على حقيقتها حتى لا يفعل الآخر نفس الشيء معه. كانت الحوارات اقرب إلى السيناريوهات المعدة سلفا - البرودة شعورها، والشكلية والمظهرية حرصها - فإذا بالاتجاه المعاكس في حواره الجاد والحاد يجبر المتحاورين على أن يتوقفوا عن لعبة تمرير الوقت (بلغة كرة القدم) وعن مجاملة بعضهم بعضا في الحوارات على حساب الحقيقة (سواء على طريقة أعيان الأرياف في عقد مراسم الزواج أو على طريقة أمراء الحرب الذين يتفاوضون مع بعضهم البعض في جلسات ناعمة ويأمرون خلال وجودهم بالحوار أن يقاتل أعوانهم بعضهم بعضا) وان يذهبوا إلى لغة الحوار الفكري والسياسي الجاد والى نمط حقيقي من التعبير عن الخلاف، والانتقال في التعامل مع الحوار السياسي من طريقة لعب الطاولة إلى طريقة لعب الشطرنج، وان يتوقفوا عن الظهور على الناس باعتبارهم من نمط فوق حالة البشر العاديين، كما هو اخرج في كل منهم لغة كشف فكر الآخر وليس فقط إجبار الآخر على أن يتحدث بلغة واضحة قاطعة، فبدا الناس يفيقون على عمق التحول الحادث في فكر بعض الرموز وعلى كل التحولات الجارية في المجتمع وعلى كل ما يجرى في العالم، إذ كل الحوار "الرايق" الذي كان يجرى بلا مشاعر أو بلا وضوح في اغلب الأحيان - وكأنه حوار طرشان في كثير من الأحيان - كان في واقع الحال تكريس لزيف التعاطي مع الخلاف بما يسمح لكل طرف عن طريق الجمل المطاطة والابتسامات أن يخفى جوهر فكره الحقيقي وان يخفى ما يشاء من الأفكار، فلا يخرج المشاهدين بمعرفة حقيقة ما يجرى في أي اتجاه كان.

كان الاتجاه المعاكس "هو مغرفة الدست" التي تقلب في عمق الإنسان وفى عمق الحدث -والحدث هو فعل إنساني - وتخرج حالة الحوار عن تنميق المثقفين ولغتهم ومصالحهم المتبادلة إذ يتحدثون وعيونهم على السلطان لا الشعب،كما هو ما أعطى الجمهور حقه في فهم كل رمز دون مواراة، وكذا هو كان وسيظل بإذن الله، البرنامج الذي اخرج الثقافة والسياسة من لغة الصالونات إلى لغة يفهمها الناس.

الحيادية والموضوعية

الأمر الدائم التعرض له في تقييم الإعلام العربي سواء على صعيد علاقته بالإعلام الغربي أو في علاقته بالحكومات والسلطات، هو ذاك الحديث المتكرر عن الحيادية والموضوعية. وفى تعرض النقاشات للبرامج الحوارية جرى تصوير هذا النمط المتميز من الحوار الجاد باعتباره خروجا على الحيادية والموضوعية. وواقع الحال أن الحديث عن الحيادية والموضوعية في هذا الصدد لم يكن إلا محاولة لقمع الحرية في الحوار والتعبير - وليس الالتزام بقواعد صحيحة في الحوار والتناول - كما هو كان محاولة لنقل لغة الأبحاث السياسية وأنماط طرق الحوار بين المثقفين في معازلهم إلى حوارات تجرى حول قضايا سياسة حامية الوطيس بما يظل يكرس رؤية أن العمل السياسي يجب أن يظل حكرا على نخب ضيقة معزولة، وهذا وذاك هو ما كشفه الاتجاه المعاكس تحديدا، لكن الأهم هو أن الاتجاه المعاكس هو من حدد وجسد الإطار والفهم الحقيقي للحياد والموضوعية في الحوار.

كان قصد القاصدين من إكثار الحديث عن الموضوعية والحياد هو استمرار جعل الحوارات بعيدة عن الإيغال في المشكلات الحقيقية وجوهرها واستمرار تناول قضايا حياة أو موت شعوب بأكملها وفق منطق الباحثين والدارسين في المراكز الحكومية، الذين يقدمون رؤاهم وأبحاثهم إلى أصحاب القرار أو أصحاب الانحياز بين فكرة وأخرى -باعتبارهم الوحيدين أصحاب قرار الانحياز دون غيرهم -وكذا كان صدهم من الحياد هو الوقوف في موقف المحايد بين الشر والخير وبين المعتدى والمعتدى عليه وبين الضحية والجلاد، حتى لا تنتشر فكرة تحديد المواقف والمعسكرات ليظل الحال على ما هو عليه-فإذا بالاتجاه المعاكس يؤسس لفكرة الحياد والموضوعية وفق فهم ومنهج ورؤية صحيحة تجعل من المواطن الفرد الإنسان ومن الشعوب صاحبة قرار أيضا. فالحياد هنا هو حياد مقدم البرنامج بين وجهات النظر المختلفة -وهو هنا المبدع الاعلامي د.فيصل القاسم - بينما كلا المتحاورين يمثل وجهة نظر وموقف تمثل جزءا من الواقع الموضوعي في تعبيرها ذاته، تعرض بكل الجرأة لتصبح تمثيلا أعمق لقطاع أوسع من الواقع، وليصبح المشاهد هنا هو صاحب الحق في الانحياز بين وجهة نظر أو أخرى - أو صاحب الحق في الانحياز إلى فكرة دون أخرى - بما يجعل الجمهور أو الشعوب هم أصحاب الحق أيضا لا الحكام وحدهم.

وإذا كانت تجربة الجزيرة - كما أوضحت في تحليل سابق - قد تلازمت فيها الحرية مع العمل الإعلامي عالي الحرفية والمهنية، فان الحرية التي وفرها برنامج الاتجاه المعاكس لضيوفه وإشراك المشاهدين والمتابعين بآرائهم خلال البرنامج - من خلال التصويت حول سؤال موضوع الحلقة ومن خلال المداخلات - هو ما قدم الموضوعية بأرقى صورها، إذ الموضوعية ليست إلا نقلا للواقع، الذي يتمثل هنا بأعلى درجة من التمثيل خلال أصحاب الآراء المختلفة والجمهور.

ولذا فان كل من حاول الإيهام بان الحوار الحاد والواضح إنما هو حوار غير موضوعي وغير حيادي إنما هو قصد فعليا عدم نقل صورة الواقع أو هو حاول العودة بالبرامج الفضائية إلى نمط حوار المثقفين المتحذلقين، والى استمرار احتكارهم للمواقف السياسية والحوار حول مصير الأوطان، وفى ذلك فان الاتجاه المعاكس هو أهم البرامج التي حققت مشاركة الشعوب في صنع القرار.

بيت القصيد

وهنا نصل إلى بيت القصيد، حيث الاتجاه المعاكس وباعتباره برنامج الحرية ومغرفة الدست" في قاع الفكر والسياسة لا في قشورها وبحكم انه البرنامج الذي ادخل الجمهور إلى عالم الفكر والسياسة وجعله هو الحكم، إنما هو أيضا من ادخل إلى عالم الحوار وحالة الحرية كل من كان مفروضا عليهم الصمت ومن هم في بلدانهم مقموعون، فكسر كل حواجز الصمت وفتح مجالات الحوار إلى العمق وقدم تجسيدا لنفسه كمنبر من يرفض الآخرين أن يعطوا لهم منبرا، فكان أن استن المثقفون المحنطون سيوفهم القديمة الصدئة للحديث حول الحيادية والموضوعية، لمواجهة ما حققه الاتجاه المعاكس من حرية لخصومهم.

والحاصل أن الاتجاه المعاكس لم يقدم الرأي الآخر بجدية فقط - وفى ذلك تميزه - بل هو قدم الرأي المعاكس، وفى قضايا جوهرية حالة وحادة ومعاشة تشهد اعنف أشكال الصراع خلفها كما قدم للحوار حولها من هم متضادون لا مختلفون، فكان أن رأى المتحذلقون أن اعتمادهم على أسلوب الحظر والمنع لأصحاب الرؤى الأخرى قد فشل وانتهى وولى زمنه.

وفى ذلك كشف الاتجاه المعاكس زيف الإعلام الآخر المقلد الذي حاول من خلال منع أصحاب الرؤى المناقضة من الظهور، والإتيان بمن يختلفون حول نسب الألوان في التفاحة لا حول الفارق بين التفاحة والبرتقالة، أن يخدع الناس بوجود حرية وموضوعية. لقد كان الاتجاه المعاكس هو البرنامج الذي اجبر الآخرين على أن يخرجوا من لعبة التزييف إلى لغة الواقع ومن تصنع الحوار إلى حالة متقدمة من الحوار ومن ادعاء الحيادية إلى المشاركة في صنع قرار الرأي العام بالحوار الحقيقي لا بالمنع، لكن مشكلة كل هؤلاء أو مشكلة البرامج التى ظهرت تقليدا للاتجاه المعاكس بهدف النيل من نسبة جماهيريته، أنها إذ لم تفهم فكرة الحوار الموضوعي كما قدمها الاتجاه المعاكس أو لم تفهم التلازم بين الحرية والإبداع، فان ما قامت به في نهاية المطاف هو دفع الناس للإعجاب أكثر ببرنامج الاتجاه المعاكس، إذ لم يدرك هؤلاء أن الزيف لا يصنع حقيقة، وان المواطن العربي قد انتهى عهده مع اعتبار الفكر والسياسة أمرا خاصا بالسياسيين والمثقفين والحكام وحدهم.

قضايا بلا رقيب

فى برنامج الاتجاه المعاكس جرى تقديم صيغة في اختيار قضاياه وإعداده تقوم على اختيار قضايا بالغة التعقيد على المستوى الفكري والسياسي مع تقديمها بأبسط وأيسر الطرق على الفهم، وقضايا حالة معاشة تشهد صراعات عنيفة وتشارك فيها الأحداث بدور البطولة ليحول الحوار حولها إلى حالة حادة تساهم في صنع الحدث وتفجر أبعاده المخفية والمراد إخفاؤها، كما هو اختار من الأحداث الزوايا الأكثر إثارة للجدل والحوار لا الزوايا التي يمكن أن يجرى حولها حوار من أنماط حوار الطرشان.

فواقع الحال هو أن قضايا الأحداث الجارية هي ما يجرى حولها الحوار في كل البرامج السياسية، لكن الفارق كبير في زاوية التناول وفى جوانب التناول، وفى إدارة البرنامج بطريقة تحفز على إظهار جوانب الاختلاف لا السعي إلى حالة حوارية بلا معنى وبلا منطق ولا نتيجة. وهنا يظهر تميز إعداد وتقديم البرنامج وتظهر قيمة الحرية للإعلامي والإعلام والمواطن، فالإعلامي بلا حرية هو فاقد لحالة الإبداع وليس فقط فاقد لحرية العمل، والإعلام بلا حرية يتحول إلى حالة من حالات الاتصال لا التواصل والتفاعل والتأثير، والمواطن بلا حرية إعلامية هو ممنوع من السمع والمشاهدة إلا ما يسمح له أن يراه.