حين أقرأ سلاليًّا يزعم انتسابه إلى بيت النبوة يهرطق داعيًا إلى دولة مدنية، ويحتفل بقوله، أشعر بأنه يرمي عظمة في الهواء، ويفترض أن ننسى 1150 سنة من جرائم الإمامة العنصرية. وقد أجبت صديقًا أحال إليّ بالأمس مفردة كهذه: «لو أن صاحبك مؤمن بقوله، ولا يتخذه تقية كعادة سلالته، فما رده على زعم (عبدالملك الحوثي) أن شقيقه (حسين) لم يفعل ما فعله من فراغ، أو أنه قد ينطق عن الهوى، بل كان بتوجيهات مباشرة من الله»!
قال «الحوثي» هذه العبارات علنًا في خطابه أمس الأول، ولم يردعه أحد منهم عن غيه، وكان صمتهم أبلغ جواب بتأييد ومباركة منقطعة النظير.
بعد ساعات أضفت إلى صديقي عبارات كهذه: «انظروا خلف الكلمات، وابحثوا عن الحقيقة، ولا يجوز أن يلغي منشور خادع في صفحة تواصل اجتماعي أعظم جرائم تاريخية وقعت على رؤوس آلاف القبائل في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية، في اليمن، عندما سجننا أسلاف (الحوثي) بأغلال العار، وفككوا عائلاتنا، وعذبونا، وأبعدونا عن أصلنا وتاريخنا، وهدموا بمعاولهم الفارسية كل قصر منيف كان يشمخ على سفوح تلال بلادي الطيبة، وأحاطونا بسياج من لهب، وحرضونا على أنفسنا ومحيطنا العربي، وأشاعوا أن هويتنا هي تلك التي كتبت في أزقة فارس، وحملت عنوان (الزيدية) - نسبة إلى زيد بن علي - لكنه لم يكن موجودًا، ولم يكتب شيئًا مما نُسب إليه».
دعوني أخبركم من هو اليمني: نحن الرجال الأصليون الذين يجب أن يحكموا أرضهم بأيديهم، ونحن أول مَن سكن هذه الأرض بعد الطوفان، يوم وصل إليها «سام بن نوح»، فتتوالى السنين، ويتكاثر أبناؤه وأحفاده؛ فيصبحوا 13 قبيلة، وتتمكن القبيلة بعبقريتها من إنتاج أول دولة عرفتها الكرة الأرضية، مملكة «قحطان» بن هود عليه السلام، وتتجلى العبقرية مرة أخرى في تنمية باذخة ومملكة أكثر تطورًا، قادها «سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان»، وذكرها القرآن في سورة كاملة.
أنتجت القبيلة نظامًا هندسيًّا في البناء، واستطاعت تعمير قصر غمدان من جملة عجائب معمارية، هدمها السفاح «يحيى حسين قاسم طباطبا» الشهير بـ»الهادي إلى الحق»، وقد أورد «الهمداني» قولاً له، يؤكد أن نية الهدم وفعلها نابعان من رغبته الحاقدة على «ألا يبقى لليمنيين شأو وشأن».
قصر غمدان الذي بُني في عشرين طابقًا، بعضها فوق بعض، وبين كل سقفين عشر أذرع، وقد بُني بالجرانيت والرخام، وسقف بقطعة واحدة من الرخام اليماني الخام استطاع المعماريون اليمانيون أن يحولوها من مصمتة إلى شفافة، يمكن للرائي من خلالها إذا مر طير في السماء أن يفرق بين الحدأة والغراب.
وكان للقصر المهيب أربعة أوجه، وجه بني بالرخام الأبيض، ووجه بالأحمر، ووجه بالأخضر، ووجه بالأسود. تحفة معمارية خالدة هدمها أسلاف «الحوثي» بمعاولهم كما يفعل هو اليوم بكل جزء من تاريخ اليمن وهويته وحضارته.
لقد أسندت القبيلة اليمانية تلك الإنجازات الهائلة بتشكيل سياسي هو الأول من نوعه في التاريخ، يبدأ بالملك التبع المنتخب من ثمانية أذواء، يمثلون المناطق اليمانية، وله مجلس أقيال «أمراء المناطق»، ينفذون سياسة الدولة العمرانية والعسكرية والتنموية. يقول الباحث العراقي المرموق «جواد علي»: «إن ذلك النظام السياسي كان أول تطور عرفه التاريخ البشري متعلق بتنظيم الدولة».
* * *
كيف يمكن لهذا الإرث البهي أن يسجن في أغلال واهية، تدعي أن الله اصطفى عائلات عنصرية على بقية خلقه! وهي أصلاً عائلات بلا تاريخ انتسبت إلينا! الحوثي ليس حوثيًّا حقيقيًّا؛ فجده ليس حوث بن جشم؛ لقد سرق الاسم، وتأزر به ليبدو يمانيًّا. الكبسي أيضًا ليس كذلك؛ فالكبس جبل في خولان تسوره نفر منهم، والوشل منطقة في ذمار. ووادعة رجل يماني عظيم، انتسبوا إليه؛ ليمنحوا أنفسهم شرفًا به.
هذه السرقات ليست صغيرة، بل أعظم سطو؛ لأنها منحتهم ألقابًا يمانية وهوية وجواز سفر وبطاقة شخصية، ولم يشكرونا على ذلك، بل وظفوا تلك الهويات للتموضع، وسرعان ما تراهم يتقافزون مثل حبات الفشار الساخن، حين يظهر فيهم إمام يلبون صيحته إليهم كأنهم جراد منتشر، وكانت تلك طريقتهم المكررة حد الملل، ورغم تكرارها إلا أن اليمانيين سرعان ما يسامحون، ويطوي صراعاتهم نسيانٌ يقوم على حُسن النوايا؛ وهو ما يفسر من جانبهم أنه عادة حمقاء.
أيها اليماني.. من أنت؟ إن لم تقرأ تاريخك فستنسى أنك شريف من أشراف سبأ الذين ضيعتهم طلاسم أدعياء الإمامة، وستظل هكذا في وعيك المظلم مجرد نكرة، تتمنى لو كنت نسيًا منسيًّا، وأنت حفيد كل هذه السلسلة البهية من الإنجازات الصعبة التي لا تقوى الذاكرة أبدًا على محوها، ولا تستطيع الملازم المزورة أن تتخطى بهاءك المضيء في كل دروب التاريخ؛ فكن أنت كما كان أجدادك، واضرب بيديك كل فارسي خوان لئيم، هماز مشاء بنميم، وقل له إن «اليمن بلدي أنا»، ولا حظ لهم فيها أو نصيب.