اليمنيون والاستعانة بالشيطان!!
بلال الطيب
الجمعة , 17 يناير 2020
الساعة 09:23
مساء
فَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أشَدُّ مَضَاضَةً
عَلَى الْمَرْءِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّد
لا أسوأ من أن يتمادى الظالم في غيه؛ حتى يجبر المظلوم على الاستعانة بمن ينقذه، وفي تاريخنا شواهد كثيرة تدور في ذات المسار، لتُصبح «العُقدة اليزنية» عُقدة كل اليمنيين، وبمعنى أشمل عُقدة كل المُستضعفين، وغير بعيد قال «تشرشل»: «لا يضرنا الاستعانة ولو بالشيطان»، والغريق في النهاية لا تُهمه جنسية من يُنقذه.
يبقى ظلم الأئمة «الزيود» وأنصارهم هو الأقسى، سعوا طوال فترة حكمهم لاحتلال مناطق «اليمن الأسفل»، وتركيعها بكل ما أوتوا من حقدٍ وقوة، وقد تصدى لهم في كل مُحاولة المُنقذ الخارجي - من «أيوبيين، ورسوليين، ومماليك، وأتراك»، وحين تأتى لهم ذلك بمراحل مُتأخرة، وفي غَفلة من التاريخ، أهلكوا الحرث والنسل، وحولوا «الشوافع» إلى عبيد ورعايا لا حول لهم ولا زرع.
عندما سيطر الإمام يحيى حميد الدين على كثيرٍ من المناطق الشافعية، حكمها بذلك الأسلوب التقليدي المُذل، فما كان ممن ناصروه واستبشروا بمقدمه خيراً إلا أن عضوا أصابع الندم؛ بل وتوجه بعضهم صوب الإنجليز طالبين المُساندة، وهذا أمين الريحاني أثناء رحلته إلى اليمن «1922م»، التقى بمواطنين من «لحج، والحواشب، وماوية»، استغرب من تفضيلهم للأتراك والإنجليز على ذات الإمام، وقدم - حينها - نصيحته الصادقة للأخير، واستدرك قائلاً: «لو حكم الإمام يحيى حكماً مدنياً بحتاً، لا حكماً زيدياً، لتمكن من تحقيق مطامعه السياسة، أما اليوم فالشوافع في حكمه غير راضين».
وهي الصورة ذاتها التي عمد عبدالعزيز الثعالبي على نقلها في كتابه «الرحلة اليمنية»، وذلك أثناء مروره من مدينة السياني عام «1924م»، صحيح أنَّ رجالها منعهم الخوف من الإفصاح عن مكنونات استيائهم من الإمام وعساكره، إلا أنَّ النساء تحدثن له وبقوة عن ذلك، وقالت إحداهن: «وأما حكم الزيدية فنحن لن نرضى به أبداً، ولا يمكن أن يدوم، فهم بدويون لا يدرون قيمةً للحرية، ولا يذوقون طعماً للعدل، دأبهم أن ينهكوا كواهلنا بالجبايات، وينعموا بها!!».
وما أثار استغراب «الثعالبي» - حينها - حنين أولئك النسوة لحكم الأتراك، وحديثهن بحسرة عن ماضيهم، وعن الخير الوفير الذي جادت به الأرض أثناء تواجدهم، وأنَّهن لم يعرفن في عهدهم مجاعة، ولا استلاب، مُتسائلات: «متى يعود الأتراك؟!»، وحين قاطعهن: «كيف يعودوا وأنتم قاتلتموهم»، ردت ذات الفتاة: «لا تتهمنا باطلاً، فإننا لم نقاتل الأتراك؛ بل كنا نموت إلى جانبهم فداء لهم، وإنما قاتلهم الزيدية، وهم أعداؤنا وأعداؤهم».
وتلك حقيقة سجلها أيضاً الأحرار الأوائل في كتابهم «اليمن المنهوبة المنكوبة»، الذي صدر في أواخر أربعينات القرن الفائت، ومما جاء فيه: «ومما هو خليق بالذكر للحقيقة والتاريخ أنَّ اليمن بمناطقها الجبلية، وسواحلها، ومختلف مقاطعاتها المُمتدة في السهول والوديان، كانت في عهد الحكم التركي تتمتع بحكم شعبي يتناسب وحالة العصر مما هي محرومة منه الآن، ولو أمتد حكم الأتراك الى يومنا هذا لتدرج اليمانيون في ظل الحكم الشعبي نحو الحياة العامة المُناسبة أكثر وأكثر».
وما يجدر ذكره أنَّ الإنجليز عندما أرادوا الانسحاب من الحديدة أواخر العام «1920م»، استفتوا أهالي تلك المدينة المُسالمين في اختيار من يحكمهم، فاختاروا الأتراك دون إدراك للعداء التاريخي بين الأخيرين ومُستفتيهم، وأنَّ الجغرافيا السياسية تغيرت - تماماً - بعد الحرب العالمية الأولى، فلما أجيبوا - كما أفاد «الريحاني» - بأن هذا مُستحيل، قالوا: «نبغي الحكومة المصرية، نبغي الانضمام إلى مصر»، فأجيبوا أيضاً بالرفض، ليعمل المُعتمد السياسي في عدن على إرسال أحد أعوانه لذات الغرض، اجتمع الأخير بأعيان المدينة وتجارها، وسألهم مرة أخرى، فردوا كما أجابوا سابقاً، فما كان منه إلا أن أكد لهم استحالة ذلك، وسلَّم المدينة مع حلول العام التالي للأدارسة.
دخل الإمام يحيى مدينة الحديدة دون قتال «مارس 1925م»، ولم يتحقق له حُكم «إقليم تهامة» كاملاً إلا بعد القضاء على ثورة الزرانيق «1929م»، وهي الثورة التي أجبرت الشيخ أحمد فتيني جنيد على الالتجاء بالمعسكر الانجليزي في «جزيرة كمران»، ومن هناك طالب الإنجليز بدعم قبيلته في نضالها ضد الإمام يحيى وأعوانه، كما أنَّه طالب بحق تقرير المصير، وناشد «عصبة الأمم» بالتدخل لإنهاء ذلك الصراع.
هـدَّت سيطرة القوات السعودية على مدينة الحديدة حُكم دولة الإمامة في تهامة «1934م»، وقد ساعد «آل سعود» في توغلهم ذاك الشيخ هادي الهيج، وبعض مشايخ تهامة الذين اتخذوا ذلك الموقف نكاية بالإمام يحيى الذي صادر أسلحتهم، وأذلهم ورعاياهم، صحيح أنَّ «اتفاقية الطائف» - في نفس العام - أنهت تلك الحرب، إلا أنَّها لم تُنهِ حتى اللحظة ذلك الصراع.
ولو عُدنا إلى كُتب التاريخ ومراجعه الموثوقة لوجدنا أنَّ مؤرخي «اليمن الأسفل» عمدوا على وصم «الأتراك»، ومن قبلهم «الرسوليين، ووالأيوبيين» بأحسن الصفات، فهم المُنقذون، وحماة الأرض، والعرض، والدين، وبصورة مُبالغ فيها أحياناً، كما فعل المؤرخ الموزعي في كتابه «الإحسان في دخول اليمن في ظل عدالة آل عثمان».
ذات الشعور طال «المصريين» الذين قدموا إلى اليمن في ستينيات القرن المُنصرم، وناصروا الثورة السبتمبرية في مهدها، وكانوا أساس صمودها، و«السعوديين» الذين قدموا قبل خمسة أعوام لإنقاذ اليمن من الوصاية الفارسية حدَّ زعمهم، ولمآرب أخرى تبدت تباعاً، مع اختلاف بسيط في الصياغة والتشبيه، ولسان حال هؤلاء - قديمهم والجديد - يلخصه قول الشاعر عبدالله البردوني:
وبرغمي يُصبح الغازي أخي
بعدما أضحى أخي أعدى الأعادي
وفي المُقابل كانت نظرة مؤرخي «اليمن الأعلى» عكس ذلك تماماً، فهؤلاء الأجانب كُفار بغاة، واليمن - كانت وما زالت - مَقبرة لكل غازٍ ومُحتل، فيما تُهَم العَمَالة لإخوانهم في الأرض جاهزة ومُفصلة لتتناسب وحجم الصـراع الدائر، والأهم من ذلك تحفيز القبائل المُوالية على رصِّ الصفوف، والاستعداد لقتل كل غازٍ وعميل.
والمُفارقة الصَادمة أنَّ الإمام «الهادي» يحيى بن الحسين الذي عمل أجدادهم على استقدامه، وصارت لذريته وذرية من قدموا معه مِيزة وحقوق أكثر من سكان البلد الأصليين، لم يكن من وجهة نظرهم مُحتلاً؛ بل صاحب حق، وله ولذريته السيادة والملك، ملكوهم أنفسهم وبلادهم قرابة «1150» سنة، وقاتلوا وقتلوا إخوانهم في الأرض نصره لهذا الإمام أو ذاك، وشرعنوا لأطول احتلال سُلالي كهنوتي عرفته الأرض.
حين صاغ شاعر اليمن الكبير عبدالله عبد الوهاب نعمان «الفضـول» النشيد الوطني الذي يحفظه أغلب اليمنيين، كان يُدرك خلافنا وانقسامنا جيداً، وما قوله: «وسيبقى نبض قلبي يمنيا» إلا دعـوة إلى الحب والتآخي والوحدة كقلب رجل واحد، تتجسد فيه روح الوطنية والانتماء، أما قوله: «لن ترى الدنيا على أرضي وصيا»، ففيه تمرد على الماضي والحاضر، واستشراف للمُستقبل، ودعوة إلى عَدم الاختلاف، واستجلاب المُنقذين والأوصياء مَرة أخرى.
اخترنا لكم
آخر تحديث
السبت,23 نوفمبر 2024
الساعة 02:36
مساء
# | اسم العملة | بيع | شراء |
---|---|---|---|
دولار أمريكي | 2074.00 | 2061.50 | |
ريال سعودي | 542.00 | 540.00 |