في تحول مذهل يكشف أسرار التاريخ العربي، تراث عريق يمتد لأكثر من 500 عام يروي قصة السيوف التي تحولت من أدوات حرب قاطعة لرؤوس الأعداء إلى رقصات سلام تعانق السماء. العرضة السعودية، هذا الكنز التراثي المخفي، تحمل في طياتها أسراراً مدهشة تكشف كيف تحولت طقوس الحرب القبلية إلى أعظم رموز الوحدة الوطنية. لكن تحذير عاجل: هذا التراث يندثر مع رحيل كل جيل، وربما تكون هذه آخر فرصة لكشف أسراره المذهلة.
عبدالله المطيري، الرجل السبعيني الذي يحمل في ذاكرته آلاف الأبيات الشعرية الأصلية للعرضة، يحكي بصوت مرتجف: "شاهدت السيوف وهي تتراقص كأسراب طيور الكركي، والطبول تنبض بقوة قلب المحارب، لكن اليوم أخشى أن أكون آخر من يحفظ هذه الكنوز." يشارك في هذه الرقصة التراثية مئات الآلاف من السعوديين سنوياً، في مشهد يضم عدداً من المؤدين يفوق أعضاء أوركسترا سيمفونية كاملة، حيث تهز دقات الطبول القوية الأرض وتتلألأ السيوف تحت أضواء الاحتفالات في مشهد يخترق العمود الفقري برعشة الفخر.
الجذور التاريخية لهذا التراث تعود إلى عصور ما قبل الإسلام في منطقة نجد، حين كانت القبائل العربية تؤدي هذه الطقوس للاستعداد للمعارك وتحفيز المحاربين. د. سعد الهاجري، الباحث في التراث الشعبي، يؤكد: "العرضة أهم من أي كنز أثري، فهي مثل الهاكا النيوزيلندية، لكنها أقدم بمئات السنين." في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود، تحولت العرضة من طقس حربي قبلي إلى رمز رسمي للوحدة الوطنية، حيث يتذكر حمد البداح الذي شارك في أول عرضة أمام المؤسس قائلاً: "كانت لحظة تاريخية لا تُنسى، شعرت بروح الأمة تتجسد في حركات السيوف."
اليوم، يواجه هذا التراث العريق تحدياً حقيقياً مع تراجع اهتمام الأجيال الجديدة، لكن محمد الشمري، مدرب العرضة الذي نجح في تعليم 2000 شاب هذا الفن التقليدي، يقدم بصيص أمل. الخبراء يتوقعون أن تطوير صناعة السياحة التراثية قد يحول العرضة إلى عنصر جذب عالمي مثل الفلامنكو الإسباني، خاصة مع السعي لتسجيلها في قائمة التراث العالمي لليونسكو. رائحة البخور العابقة وملمس السيوف الباردة وحرارة الحماس المتدفقة في الصدور، كلها تفاصيل حسية تجعل من العرضة تجربة روحية تعزز الانتماء الوطني وتقوي الروابط الاجتماعية في عصر العولمة.
العرضة السعودية ليست مجرد رقصة تراثية، بل شاهد حي على قدرة الشعوب على تحويل رموز الحرب إلى أدوات سلام وإخاء. هذا الكنز التراثي الذي يحمل في طياته قرون من التاريخ والشجاعة والحكمة، يقف اليوم على مفترق طرق بين الحفاظ على الأصالة والتطوير للمستقبل. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل سنترك هذا الكنز التراثي الذي تحول فيه السيف من أداة حرب إلى رمز سلام ينساه التاريخ، أم سنحميه وننقله للأجيال القادمة كما تستحق حضارتنا العريقة؟