حضرة

محمد جميح
الاثنين , 16 مارس 2020 الساعة 05:13 مساء

زمان... قبل سنوات طويلة، كانت الراعية تفرش للدرويش فِراشه-كل مساء-على الرمل الناعم في ليالي الصيف المقمرة... تُناوله كوب حليب المساء، قبل أن ينام على أصداء أصوات الغيلان والذئاب، ورقص كائنات غريبة... وعند أطراف الرمل في المساء تحوم أرواح شعراء العرب... يَتْلُون ما تيسر من آيات الجمال والحب العذري الذي حمله العرب معهم، عندما عبروا حدود صحراء "صيهد" إلى الأقاصي البعيدة... النوم على الرمل في المساءات الحالمة، كان يتيح للدرويش الفرصة للدخول في جدل عميق مع السماء... في الليالي المقمرة يطيب النظر إلى وجه "القمر البدوي"...  هذا القمر المعلق كنافذة تهبط منها الملائكة على الرعاة عندما يعودون مساءً إلى خيامهم... كانت صورة القمر تستدعي تاريخاً من تأوهات "وادي الغضا"... كأن ليلى العامرية تخرج من الخيمة معطرة بـ"الشيح والعرار"... كأن المجنون يلوذ بمضارب بني عامر يناجي الأشباح الحائمة في سماء بادية بلاد العرب... ويستمر حوار الدرويش والقمر لساعات طويلة... يناقش الدرويش مع "القمر البدوي" قصص الذين بقيت آثار أقدامهم على الرمل، قبل أن يمضوا متتبعين مساقط الأحلام في الصحراء... يحضر النقاشَ جمعٌ من الدراويش والمجاذيب والرعاة والشعراء وأهل الذوق وكومة من الغيوم... وفجأة يحضر من "قونية" مولانا جلال الدين الرومي... يطيب السمر مع "رقصة الدراويش"... فجأة يهبط القمر... يتأبطه الرومي ويرقصان... يدخلان في حالة من "الوَلَه"... يُعلق أحد الحضور على حركات مولانا الدائرية بقوله: "الجذب الصوفي" لحظة وعي تام... ...فجأة تحضر الراعية بمعية "مايا"... "مايا" عازفة غجرية كانت تعزف ألحاناً بكائية أندلسية في "ميترو لندن"... يذكر الدرويش أنها مرة قرأتْ له "الكفَّ"... رأت في كفِّه غيوماً كثيفة... رأت طريقاً صحراوياً ممتداً... رأت امرأة في نهاية الطريق، متلفعة بعباءة بدو صحراء "صيهد"... قالت مايا للدرويش: هذه طريقك... حاول الدرويش أن يستفسر أكثر، لكن مايا رفضت المزيد من الإفصاح... الغجر يعتمدون "الإشارة" في نقل المعاني... وكما يسير البدويُ ليلاً خلف النجوم، يتهجى الغجريُ إشارات السماء دون الإفصاح عن أسرار النجوم... كانت الراعية تعرف أن الدرويش يحب أن ينام على الرمل... كانت تهئ له فراشه قرب الخيمة... وقبل أن ينام كانت ترسل له بعض أصدقائها ليسامروه: باولو كويلو والرومي، ومايا وكيميا قبل أن يتعرف الدرويشُ-أخيراً-على "زُوْرُو""، ويغيب في إيقاع رقصات "زوربا الإغريقي"... يسامر الدرويش "أهل الحضرة"... يناقشهم نقاشاً طويلاً... يمتد النقاس إلى ما بعد النوم في الأحلام التي يقذف بها "القمر البدوي" في خاطر الدرويش الذي يصحو صباحاً على: شمس ناعسة، ورذاذ أحلام، وبقايا آثار أقدام، ووجه الراعية في الأفق الأعلى، يقول: تهيأ للرحلة... الراحلة تنتظرك عند الشاطئ الأيمن... سألقاك الليلة خلف الكثيب الأحمر... عند السنديانة... سنشرب القهوة التي شربناها ذاتَ مساء قبل أن نفترق... إلى اللقاء...