وطن يبحث عن وطن
بلال الطيب
الثلاثاء , 04 فبراير 2020
الساعة 04:02
مساء
التاريخ - كما يقول «ابن خلدون» - امتداده للحاضر والآتي، وبدون دراسته يصعب علينا فهم الحاضر، وترسم خطوط المستقبل، ومن لم يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى - حد توصيف «غوته» - في العتمة، كما أنَّ الاهتمام بالسياسة فكرًا وعملاً يقتضي - كما قال «هيكل» - قراءة التاريخ أولاً؛ لأن الذين لا يعلمون ما حدث قبل أن يولدوا محكوم عليهم أن يظلوا أطفالًا طـُول أعمارهم.
وكما أنَّ فهم الجذور التاريخية لأي ظاهرة أمر مُهم، فإنَّ عدمَ تجاوزها أمرٌ كارثي؛ بل يُشبه الدوران في حلقةٍ مُفرغة، ولا أنسى في بداية هذه المقالة أنْ أُذكر بمقولة الفيلسوف الألماني هانريك ماركس بـ «أنَّ التاريخَ يُعيدُ نفسَه عند الأمم المُتخلفة»، أما الأمُم الواعية فهي تدرس ماضيها جيداً، وتعمل على عدم تكرار أخطائه.
وفي المـُـقابل يقول القائل: «نحن شعبٌ مسكين، ينسى بسرعة، ويَغْفر حتى لمن أساؤوا إليه»، تلك الميزة التي نتغنى بها، أو «الذاكرة الذُبابية» التي نتباهى بامتلاكنا إياها، تبقى مُصيبتنا الأزلية؛ وبها وبسببها ستبقى أخطاء من سبقونا تُعيد نفسها، ولن نخرج من هذه المتاهة المـُوحشة إلا بذاكرة حيَّة تغفر ولا تنسى.
اليمن مَـوطن العرب الأول، تَـفرق العرب وبقيت أسوأ تناقضاتهم مَحصُورةً في ذات الحيز الجغرافي، لديها تواريخ مُشتتة لا تاريخ جَامع، يَفخرُ جُلُّ سُكانها بقهرهم للغزاة، وبأنهم أولو قوة وبأسٍ شديد، وأصحاب حضارة هائلة، وماضٍ تليد، وفي المقابل عمل البعض على استقدام الغازي الغريب، نصروه، وملكوه أنفسهم وبلادهم قرابة «1150» سنة، فكان أسوأ وأطول احتلال عرفته الأرض.
الشهيد محمد أحمد نعمان فيلسوف الثورة ومُنظرها الأبرز، كرسَ جُهده لمـُعالجة مَشاكل اليمن المـُعقدة من مَنظورٍ مُختلف، جاعلاً من تلك التناقضات مُنطلقاً للدراسة والتقييم، اجترَّ الماضي بمآسيه الثقال، وقدمه في كتابه «الأطراف المعنية» بشفافية مُطلقة، أفزعت البعض، وبلغة جادة، تمردت على السياق المتداول، وبعبارات رصينة، ابتعدت كل البعد عن تلك المسحة الحالمة التي كرسها كثيرون في كتاباتهم.
«إن هناك من يَفزع أشد الفزع لمجرد ذكر الفروق الموجودة في الاعتبارات بين أبناء الشعب، ويعتبر ذلك عملاً ضد الوحدة الوطنية، يُقصَد به التمزيق والتجزئة، وتقسيم الشعب إلى شيع وطوائف وأحزاب، ويعتبر أيّة مُحاولة لبسط المشكلة من هذا القبيل إثارة مخربة».
قالها النعمان قبل أكثر من «50» عاماً، ثم مَضى مُتعمقاً في جذور المشكلة، رابطاً إياها بأحداث مُتصلة، داعياً الجميع للاعتراف بها، ومواجهتها، والانصياع للقانون التاريخي المـُـتحكم، مُعتبراً ذلك كسباً لنصف الجولة.
حين حاول «الأحرار السبتمبريون» - بفعل حماسهم الثوري - القفز على تلك الحواجز؛ كانت النتيجة أن انفجر البركان، وكاد أن يحطمهم جميعاً، ليجدوا أنفسهم - حد توصيف النعمان - يواجهون حقائق وجودهم صارخة مُجردة، وينظرون لتناقضات حياتهم سافرة مُفزعة.
الأسوأ من تلك التناقضات تجاهلها، وقد قَسَّم النعمان المُتعاطين معها إلى صنفين، عاطفيون يثيرون المشاعر ضد المواقف، حلولهم ذاتية، ولا تعدوا أن تكون ضرباً من ضروب الخيال، وأسلوب من أساليب القفز في الظلمات، وعاجزون يقنعون بالسلامة، يتخذون من مسوح التعقل منهجاً، ثم ما يلبثون أن تدفعهم رغبة العيش في سلام لمواقف انتهازية، تُصبغ كل يوم لهم لوناً، وتصنع لهم في كل حين شعاراً.
في وقتنا الراهن انبرى بعض الإعلاميين والسياسيين - بشقيهم العاطفي والعاجز - للتقليل من «الحركة الحوثية»، فهي - حدَّ وصفهم - دخيلة على التاريخ والجغرافيا، وبلا حاضنة شعبية، داعين لتجاهلها من مُنطلق عدم نبش الأحقاد، وإثارة الضغائن، ناسين ومتناسين أنَّها امتداد طبيعي لـ «الإمامة الزيدية»، وفكرة سُلالية يعتنقها آلاف اليمنيين، وطامة كُبرى آخذة في التمدد حدَّ الهلاك.
قبائل شمال الشمال، كانت - وما تزال - نصير الإمامة المـُـخلِص، والمـُـخلّص، وهي عبر تاريخها الطويل حتى وإن ثارت، إما طمعاً في المغانم، أو ضد إمام لتنصب آخر، ومن ينكر هذه الحقيقة كمن يحجب نُور الشمس بغربال، وإذا كان «الحوثيون» بلا حاضنة شعبية، فمن يقاتل معهم إذاً؟ أم أن الله مدَّهم بملائكة من عنده بوصفهم أنصاره وأحباؤه؟!.
جون كيري - وزير الخارجية الأمريكي السابق - هو الآخر جاء وصفه لـ «الحوثيين» بأنهم أقلية، مُتماهياً وهذه النغمة الشاردة، صحيح أنَّها تمييع غربي للمُشكلة، ومُبرر لتدخلاتهم مُستقبلاً تحت لافتة «حماية الأقليات»، وفق قوانين دولية مُلزمة، إلا أنها في ذات الوقت فضحت هؤلاء المتذبذبين، تعاطوا معها بسذاجة مُتناهية، بدت تناقضاتهم باهتة، وتثير الضحك حدَّ البكاء!.
«الحوثيون» أنفسهم استاءوا من هكذا توصيف، كيف لا؟! وهم يعتبرون أنفسهم الشعب، كل الشعب، تلاشت مظلوميتهم، وتبددت آهاتهم التي طالما صموا آذاننا بها، ومعهم أولئك المتذبذبون، باتوا يفخرون بسيطرتهم على مكامن القوة من بشرٍ وعتاد، ويعدونه نصرًا وتمكينًا إلهيًا، وعودة الحق المسلوب إلى أهله.
ظل أمل إصلاح الجمهورية من الداخل قائماً على يد ثُلة من الأحرار المـُـخلصين، كان الشهيد محمد النعمان أبرزهم، سبق الجميع بالمناداة بالحرية والديمقراطية كدعوة وطنية قائمة على مبدأ الشفافية لا الضغينة والإنطواء، طالب بتفعيل مُشاركة أهل الحل والعقد ذوي الفعالية الشعبية غير المفتعلة، أو الموجهة، أو المدعومة، وأتى بحلول صالحة لكل زمان ومكان، قائمة على إزالة الحواجز لا القفز عليها، خالية من الإثارة، مُتمردة على ثقافة الاستسلام، الأمر الذي ألَّبَ عليه مُمتهني «التسلط»، ومتزمتي «اليمين»، ومُتغطرسي «اليسار».
استاء أعداء الاستقرار من دعوات محمد النعمان الإصلاحية، فأسكتوا صوته وللأبد «28 يونيو 1974م»، ليتجرأ شباب اليمن بعد «36» عاماً من اغتياله بالمناداة بذات المطالب، وفي غمرة انشغال «الأطراف المعنية» بالحوار، وصياغة «دستور اليمن الجديد»، تسلل القديم، وقاد جحافله المـُـتوحشة للقضاء على الجمهورية، وهي لم تحقق أهدافها المـُعلنة بعد.
كطرف ضالع في كل مآسينا، حاول أرباب «الفيد»، ومُمتهني «التسلط» إعاقة تنفيذ «مُخرجات الحوار الوطني»، وتأسيس «الدولة الإتحادية» المشروع المـُـنقذ، والحلم المـُـؤجل منذ مئات السنين، الذي سيقضي على هيمنتهم، وسيحد من نفوذهم، ورغم معرفتهم سلفاً بأنَّ غالبية الشعب باتوا مع هذا الخيار، عملوا على رفع كلفة تحقيقه، أرادوا قتله في النفوس التواقة للاستقرار، وفاتهم أنَّ عُنف الحقد يحييه ويحييه.
قبل أكثر من «16» قرناً، نجح «الحميريون» بتوحيد اليمن «فيدرالـيًا»، وحمل ملوكهم «الـتبابعـة»، اللقب الطويـــل: «ملك سـبأ، وذو ريـدان، وحضرموت، ويمنت»، و«تُبَّعْ» لقب ملكي لم يحمله إلا من حكم اليمن الكبير، وقريباً جداً سيستعيد اليمنيون أمجاد أجدادهم.
«الدولة الاتحادية»، امتداد لـذلك النموذج الحميري القديم، صيغة جديدة لوطن يبحث عن وطن، حل ناجع، وخيار ضرورة، جاء مُـلبـيًا لطموحات أحلام المحاولين، مُترجمًا لأفكار المـُستنيرين، مؤكدًا أنَّ حال اليمن اليوم لن يصلح إلا بما صلح به أولها.
اخترنا لكم
آخر تحديث
السبت,23 نوفمبر 2024
الساعة 02:36
مساء
# | اسم العملة | بيع | شراء |
---|---|---|---|
دولار أمريكي | 2074.00 | 2061.50 | |
ريال سعودي | 542.00 | 540.00 |