عشنا في الايام الفائتة عيداً عظيماً يقدسه المسلمون لاقترانه أولاً بالركن الخامس من أركان الإسلام، أو وهو الحج الى بيت الله الحرام الذي يفد إليه المسلمون من كل فج عميق، وثانياً لذبح الأضاحي، فقد شرع الله الأضحية امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى، ودليلاً على طاعته، وما أنزله على عباده، فكان سيدنا ابراهيم -عليه وعلى رسولنا افضل الصلاة وأزكى السلام-، قدوة عظيمة في الامتثال لذلك الأمر العظيم، ولو كان على حساب أغلى ما يملك، فولده الذي انتظره سنيناً، يؤمر بالتضحية به، ومع هذا لم يكن سيدنا اسماعيل -عليه وعلى حبيبنا ازكى الصلاة والتسليم- أقل انصياعاً من والده، في قصة تروي لنا كيفية تقديس الأوامر الشرعية حتى وإن كانت تخالف هوانا، وتعارض شهواتنا الانسانية.
ورحمة بسيدينا ابراهيم وإسماعيل –عليهما ونبينا وبقية اخوانهم من الانبياء صلاة الله وسلامه- لم يُمضي سبحانه وتعالى ذلك الامر الجلل، بل فدى الطائع بذبح عظيم، ومن هنا شُرعت الاضحية التي جاءت أيضاً مخالفة لهوى النفس ورغبات الشيطان الرجيم، الذي حاول أن يثني أبا الانبياء عن مسعاه، ولكن هيهات، فقد كان ابراهيم عليه السلام أمة لوحده، بل هو خليل الرحمن.
لا نطالب الناس في تلك الايام الضحية على هيئتها الشرعية والمتمثلة بالذبح تقرباً لله عز وجل، بالإضافة الى غلاء سعرها، وقلة مرتبات الموظفين، فإن الضائقة المالية الناتجة عن الازمة التي مرت بها بلادنا، جعلت الغالبية في حل من هذه الشعيرة العظيمة... ولكن اليمنيين اليوم ليسوا في حل من المقصد الاسمى لها، فقد نعجز عن التضحية بالأضاحي من الأنعام، ولكننا مطالبون للتضحية بشهواتنا ورغباتنا حتى نحقق تلك الغاية الجليلة.
جميع اليمنيين مطالبون شرعاً بالتضحية بكل ما يعمق الخلافات، وينكأ الجروح، ويدعو للتشطير والابتعاد عن وحدة الارض والإنسان... نعم فالأضحية التي أقامها الناس ليست فقط ذبح الهدي وإتباع ذلك النسك الجليل، ولكنها أيضاً طريقاً لإشاعة التسامح والإخاء والمودة... ومن هنا فإن تضحيتنا بخلافاتنا القديمة تعبيد لطريق الوئام الذي نحن سائرون فيه.
الحوار الوطني هو الذي ينبغي أن نضحي من أجل بكل شيئ، فما نحن فيه من أزمات حقيقية ومفتعلة، لا سبيل لحلها سوى التضحية بالمغانم التي يحرص عليها كل من تولى سلطة، ويظن أنها باقية، مع أن صاحب السلطة نفسه الى زوال.
من اليسير جداً أن نعمق الخلافات، فالشيطان لعنة الله عليه، قادر مع جنوده من الانس والجن، على خلق الصراعات وتصوير الحق باطلاً والباطل حقاً.. ولكن الله سبحانه وتعالى وهبنا العقل الذي نفرق فيه بين الحلال والحرام، وبين ما تشابه علينا، ولهذا فما من عاقل يفضل أن نمضي في طريق الغي والضلال، ذلك الطريق المؤدي الى تمزيق الامة اليمنية بعد وحدتها، وطغيان العداوة بينها بعد أن ساد التسامح.
ما علينا إلا أن نجاهد أنفسنا على تغليب المصلحة العامة، على سواها من المصالح الشخصية، فكل مصلحة شخصية ينفرد صاحبها بغنيمته وفائدتة لنفسه، ويحرم بها الآخرون، هي مقيتة عند الله ورسوله وسائر الناس... فالتضحيات التي قدمها وما زال يقدمها اليمنيون، ينبغي أن تتوج بلقائهم معاً ليشكلوا سوياً مستقبلهم، وفق الحقوق والواجبات والمواطنة المتساوية التي تجعل الجميع تحت طائلة القانون،ولقد الشيخ عبد الرحمن عبد الله مكرم إمام وخطيب الجامع الكبير بالحديدة -في خطبة العيد محقاً- حين أنذر المتخلفين عن الحوار، وشبههم بأن كالمغردين خارج السرب الوطني، فنحن بحاجة ماسة الى منابر ايمانية تدعو وتنادي للحوار الوطني، وتشجع على الانخراط فيه، لما فيه من مصلحة عظيمة للشعب اليمني، التواق الى دولة يتساوي فيها الجميع تحت مظلة النظام والقانون.
إذا كنا نشكو من الجور فلا جور أكثر فضاعة من التناحر، وإذا كان الفاسدون قد استأثروا بأقوات الشعب، ففساد الرأي والاحتكام الى الهوى أشد، لأن عواقبه لا تقتصر على قائله فقط بل يعم فساده السواد الاعظم من الشعب.
نحن مدعوون الى التضحية، والتضحية هي من رجال عزموا على التغيير، فالتغيير ليس كلمة تقال، ولا خروج واعتصام في الشوارع، بل هي نية صادقة في اصلاح كل ما اعوج من حالنا، وبطبيعة الحال لا يصلح الاعوجاج باعوجاج اكبر منه.. فما علينا إلا مقاومة النفس وتطويعها على تقبل الاخر ورأيه مهما كان مخالفاً لرأينا.. فالوطن يتسع لكل رأي يرى صاحبه أنه سيعود بالنفع على الامة اليمنية على اختلاف مشاربهم السياسية ومذاهبهم الدينية، وتنوعهم الثقافي.. فلنضح بخلافاتنا من أجل نجاح مؤتمر الحوار الوطني.