الخميس ، ٢٨ مارس ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٠٣ مساءً

حصاد الثورة

حسن العديني
الثلاثاء ، ٢٣ ديسمبر ٢٠١٤ الساعة ٠٩:٥٠ صباحاً
مضت أربع سنوات منذ أشعل في نفسه النار التونسي «بوعزيزي» في السابع عشر من ديسمبر 2010 وأحرق المنطقة كلها من بعده.
يقال دائماً إن الأحداث السياسية لا تنقض كالصواعق من السماء بدون مقدمات وبدون أسباب تتراكم وتتفاعل ليتولد عنها الانفجار الكبير. وعلى نحو معين ينطبق هذا على أي حدث غير اعتيادي بما فيها تصرفات الأفراد الشاذة إزاء أنفسهم ومع محيطهم الاجتماعي، فلو أن «بوعزيزي» كان يعيش في ظرف طبيعي لاختلف تصرفه حيال اعتداء الشرطية المتعجرفة عليه وردّ إليها التحية بمثلها أو بأسوأ منها، ولكان انهال عليها سفعاً بالأيدي وركلاً بالأقدام أو لأضرم في جسدها النيران بدلاً من جسده، لكن الرجل كان واقعاً تحت قسوة ظروف نفسية معقدة تسببت بها أوضاع اقتصادية جعلته لا يطيق الحياة فضلاً عن أن يتحمل الإهانة.

بنفس المستوى من الضيق بالحياة والعجز عن مواجهة أعبائها استجاب شعب تونس للحدث وخرج في ثورة غاضبة ما لبثت أن امتدت إلى مصر ثم اليمن وليبيا وسوريا وإلى بلدان أخرى استطاعت فيها الأنظمة الحاكمة أن تطفئها في بداياتها بينما سارعت حكومات غيرها إلى إجراءات وقائية منعت انتشار النار إليها حتى حين.

لقد تصرفت الشعوب بالطريقة نفسها التي تصرف بها «بوعزيزي» المظلوم والمهان، فقد تركت للانفعال تقرير الفعل دون تفكير بالنتائج، ومن غير تحديد دقيق للأهداف، وكأنما الغرض هو التنفيس عن حالة مكتومة وغضب عارم واختصر الشعار المرفوع في العواصم والمدن العربية هذه الحالة من عدم الوعي بما يجب أن يكون.

«ارحل». وماذا بعد؟ لا أحد يعرف، ولا أحد يقرر، حتى استقر عند كثيرين أن رحيل الرئيس هو الهدف وبعد ذلك فلكل حادث حديث، ولم يأبه من تصدروا المشهد السياسي على الساحات وفي خارجها أن النظام السياسي هو تعبير عن مصالح اقتصادية لطبقات اجتماعية يمثل الجالس على كرسي السلطة رمزها والرجل الأول في طابور الممثلين لها في منظومة الحكم، وأن رحيله، حتى رحيلهم جميعاً، مع بقاء فلسفة الحكم لا يشكل تغييراً بأي معنى.

وإذا استعرنا الموروث في التقاليد الماركسية، وهو صحيح تماماً، فسوف نقرر أن الظروف الموضوعية للثورة نضجت إلى أقصى درجات النضج، لكن الشروط الذاتية لها لم تتوفر، بمعنى أن الأحزاب الثورية الواعية بظروف الثورة والقادرة على التقاطها والتعامل معها لم تكن جاهزة، ولذلك تركت ثمرة الثورة تسقط من تلقاء نفسها بعد طول انتظار، ومثل أي ثمرة ناضجة تقع على الأرض فإنها تفسد بالضرورة.
من التكرار القول: إن الثورة لكي تنجح تحتاج إلى أداة ثورية تسترشد بنظرية ثورية وتوجهها قيادة قادرة ومجربة.
لكنه تكرار لازم لتأكيد حقيقة أن الثورات العربية لم تتوافر على هذه الضرورات مما جعلها تهوي إلى القاع بفعل قانون الجاذبية، أو لنقل إنه بفعل أي من القوانين الطبيعية وقعت ثمرة الثورة أمام هجوم ضارٍ من جيوش بكتيريا القوى الرجعية التي التهمتها وحولتها إلى ثمرة فاسدة. وكما في الطبيعة دائماً فإن بعض البكتيريا أنشط من بعضها الآخر، لكن الأقل نشاطاً لا تموت بالضرورة وإنما تتقدم وتشارك في التهام الضحية.

ومن غير ما أي قصد بإهانة قوة سياسية بعينها فإن الانتقال من اللغة الخاصة بالعلوم الطبيعية إلى اللغة السياسية المباشرة فإن الإخوان المسلمين كانوا القوة الأكثر تنظيماً ونشاطاً بين القوى السياسية كلها والأقدر على التقدم لالتقاط ثمرة الثورة، لكنهم بحكم طبيعة تكوينهم أفسدوها بدل أن يتولوها بالرعاية والصيانة، وفي الحال تقدمت جرثومة النظام القديم في كل بلد لتنازعها الضحية.
وكذلك رأينا حزب النهضة الإسلامي في تونس يخسر في الانتخابات البرلمانية أمام حزب نداء تونس بقيادة «الباجي السبسي» أحد أعمدة نظام «بن علي»، وأن السبسي فاز بمقعد الرئاسة مزيحاً منافسه المرزوقي المدعوم من النهضة.
والمعنى أن الثورة التونسية انتهت إلى غنيمة تتنازعها القوى الطبقية المعادية لمصالح الأغلبية، سواءً ارتدت لبوس الدين أو قميص الليبرالية، بينما لا تجد الطبقات التي احترقت في لهيب الثورة الأدوات السياسية القادرة على تمثيلها وحمل راياتها.

لا يختلف الأمر كثيراً في مصر، حيث تقدم الجيش لإنقاذ البلاد من المآل الخرب الذي كاد الإخوان المسلمون أن يقودوها إليه، غير أن ضعف الحركة الوطنية المصرية أفسح المجال لقوى النفوذ القديمة أن تعيد ترتيب أوضاعها للالتفاف على النظام الجديد ومحاولة مصادرته في السياسة كما في الطبيعة لا يوجد فراغ، وحيث تراجعت قوى اليسار تركت مكانها للجماعات الدينية التي لا تملك مشروعاً وطنياً في حين يتماهى مشروعها الاجتماعي مع مشروع الطبقة القديمة المستغلة.
الأسوأ من هذا فإن الأحزاب الدينية اثبتت بالممارسة أنها أكثر تهوراً في التفريط بالقضية لاوطنية وأكثر جشعاً وإمعاناً في استغلال الطبقات الفقيرة.

وفي ليبيا واليمن دفع الاخوان المسلمون كثيراً من الجماهير التي أبدت الثورة أ, شاركت فيها إلى إعادة الاصطفاف وراء النظام القديم أو من بقي منه ومن تحالف معه. وليس أمراً غير ذي مغزى أن بعض المصريين أبدوا تعاطفاً مع “حسني مبارك”، أثناء جلسات محاكمته وأن بين اليمنيين من استمزج الشعار الذي اطلقه الرئيس السابق عبر بعض مناصريه “سلام الله على عفاش”، وكذلك من رحبوا بجماعة الحوثي رغم تحفظهم على مشروعهم السياسي. ويوم أمس كنت مع عضو في مجلس الشورى تولى فيما سبق عضوية اللجنة العليا للانتخابات نناقش الأوضاع الحالية في المين، ولاحت نبرة يأس في حديثه ولأنني اشاهد صورته على شاشات التلفاز في اجتماعات الرئيس السابق مع قادة المؤتمر الشعبي العام سألته إن كان يوافقني على أن الأحوال الجارية هي نتاج سياساته خلال حكمه الطويل وأن نفوذ الجماعات التي نحملها المسئولية عما يحدث الآخ قد ترسخ بسبب تلك السياسات الرعناء. وافقني على ذلك، لكنه قال بحيرة ما الذي علينا أن نفعله الآن، وكأنه لم يجد غير البقاء في المكان الخطأ لأنه يرى موقفاً سليما يستحق شرف الانتقال اليه. وفي حديث آخر عبر التلفون مع سياسي ودبلوماسي لاحقه نظام علي عبدالله صالح منذ نهاية السبعينيات استغربت بقاءه على تأييد الحوثيين بالرغم من ثبوت تحالفهم مع خصمه اللدود، قال إنه بات يتحفظ على ممارسات الحوثيين، لكنه سألني إن كنت أهون مما فعلوه بإقتلاع علي محسن وحميد الأحمر. وذلك صحيح بالطبع، لكن اقتلاع الاشخاص أو الحد من نفوذهم ليس هدفاً بذاته إذا استمرت ممارساتهم على أيدي نافذين جدد وإذا لم تعد الحقوق التي اغتصبوها إلى أهلها. ولقد خرج هؤلاء من البلاد بالفعل، غير أنهم يمارسون التأثير في الشأن الجاري بالبلاد من مواقعهم في المنافي. ثم إن الآثار السلبية المتخلفة عن افعالهم لم تزل تهدد مستقبل البلاد مادامت لم تتخذ اجراءات لتصحيحها. والجنوبيون انقلبوا على الايمان بالوحدة بسبب إزاحتهم من الوظيفة العامة، وأخطر من ذلك بسبب آلاف الكيلومترات من الأراضي التي استولى عليها كل نافذ من آل صالح وآل محسن وآل الأحمر والموالين لهم. آلاف الكيلومترات لكل واحد منهم وليس لجمعهم.

كذلك هي الثورة، ثمرة فاسدة. فهل تصلح بالعودة إلى أصل الشيء، النظام القديم. أم أن الشعب في اليمن سيقرر خيارات أخرى إذا مضت الأمور في اتجاه تنفيذ مخرجات الحوار الوطني. وسنشهد انتخابات لا يكون فيها بين سبسي ومرزوقي يمنيين.
السؤال صعب، والمستقبل يلفه الضباب.

" الجمهورية نت "