الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١١:٥١ صباحاً

الرئيس بين الديمقراطية والأوصياء الجُدد..!

د . محمد ناجي الدعيس
الأحد ، ١٣ ابريل ٢٠١٤ الساعة ٠٧:٤٠ مساءً
يقول الكاتب الأمريكي (روبرت دال) في كتابه " الديمقراطية ونقادها ": إن الحكم عن طريق الأوصياء البديل الدائم للديمقراطية، ويستند هذا الحكم إلى النظرية القائلة: ( بان الناس العاديين يمكن الاعتماد عليهم في فهمهم لمصلحتهم والدفاع عنها - ناهيك عن مصلحة مجتمع كبير جداً – ما هي إلا ضرباَ من الأوهام، فماذا يقصد بحكم الأوصياء ؟.
إن هذا الشكل من الحكم مع الأسف ليس بديلاً ونقيضاً للحكم الديمقراطي العربي فحسب، بل ويشكل خطراً جدياً وتحدياً حقيقياً للديمقراطية، وقبل أن نخوض في الرؤى والأفكار لحكم الأوصياء،يتطلب الأمر معرفة ما هو المقصود بالوصاية ؟، إذ قد يحصل لبس وغموض في فهم هذه اللفظة، يجعل بعضاً من القراء غير قادرين على معرفة مكامن الخطر فيها، وقد أشرت في مقال سابق عن التطور التاريخي لحكم الأوصياء في التنظير السياسي – بدء من عصبة الأمم - والأسس التي ارتكزوا عليها. وهنا نخوض عن ظاهرة الأوصياء الجدد التي برز الحديث عنها في الفكر العربي المعاصر.

فالفعل وصى في لسان العرب لابن منظور ورد بمعان عدة : بمعنى الوصية أثناء الموت، ويرد – أيضاً – بمعنى الرفق، كما في الحديث : استوصوا بالنساء خيراً، وبمعنى الفرض كقوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم، وقوله تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به، أمّا في كتاب المنجد في اللغة العربية المعاصرة، وصى بمعنى: من يتولى شؤون قاصر، وصي على يتيم، أي قام بدور وصي بطريقة قضائية، وكذا وصي على عرش، أي يتولى الملك بالوصاية عن قاصر. وبذلك فإن لفظ وصاية سوف تشير إلى الهيمنة في وصاية سياسية، أي هو تولي شؤون دولة بالنيابة عن قاصر، أو إشراف دولة على حكم دولة أُخرى. والى هذا المعنى تذهب ( موسوعة السياسة)، إذ الوصاية هي عبارة: عن نظام اعتمدته هيئة الأمم المتحدة من أجل إدارة الأقاليم التي تخضع لهذا النظام بمقتضى اتفاقات فردية لاحقة وللإشراف عليها والعمل على إعداد الأقاليم وشعوبها لبلوغ الحكم الذاتي أو الاستقلال. وبهذا تكون الوصاية نظاماً لهيمنة المحتل – أي محتل أكان أجنبي أم وطني - على الشعوب الخاضعة له يُعدها شعوباً ( قاصرة)، وغير مؤهلة لحكم نفسها .
وإذا تجاوزنا ما ورد في لسان العرب، فإن معنى الوصاية الوارد في (المنجد..)، وفي(موسوعة السياسة) هو الذي يخشى منه على الديمقراطية، فعند ما يتصور الحاكم أو الشيخ أو رئيس الحزب إنه الوصي على الشعب، الذي هو – في نظرهم – قاصر لا يمكن أن يكون مؤهلاً لحكم نفسه بنفسه، عندها تكون العلاقة بين الطرفين علاقة تراتبية (هرمية)، تسمح للحكام بالاستئثار والاستبداد بالسلطة والثروة، وتمنع الشعب من المشاركة الفاعلة في إدارة شؤونه العامة، وتحديد حقوقه وواجباته، فيكون الحاكم – الوصي - هو القانون النافذ، الأمر الذي يؤدي إلى ديمقراطية شكلية أو قبرها (حكم الشعب) .أن الوصاية قد تتجسد بفرد أو بحزب معين أو فئة أو طبقة اجتماعية معينة، والأسباب المبررة لهذا الحكم كثيرة، لكن أطره العامة متشابهة حيث أنها تحرم الشعب من أن يكون سيد حاضره وتكبيله من رسم شكل مستقبل شكل الدولة التي يريدها.

من يُفترض أن يحكم ؟!
يثير الحديث عن الوصاية سؤالاً مهماً، ويراه - جلين تيندر - من الأسئلة الأبدية في الفكر السياسي، والسؤال هو: من يُفترض أن يحكم ؟ لقد تنوعت إجابات الفلاسفة والمفكرين على هذا السؤال بين ثلاثة اتجاهات : الأول تزعمه "هوبز" الذي لم تكن لديه ثقة بالأنظمة الأرستقراطية، ونظرته تشاؤمية إلى الطبيعة البشرية وما تنطوي عليه من أنانية تحيل الإنسان إلى عدو لأخيه الإنسان في حرب مستمرة يشارك فيها الجميع ضد الجميع، فأجاب على سؤال بالقول : أي شخص، وكان تفكيره العقلي يسير بالشكل الآتي: إن ما يرغب فيه كل شخص في أنانية قبل كل شيء آخر هو الحفاظ على الذات، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا حيث ما يوجد السلام، والسلام هو نتاج دولة قوية، حسنة التنظيم، ومثل هذه الدولة هي الهدف الأول لرعايا أي حاكم، فما الذي يريده الحاكم ؟ أنه يريد مثل كل شخص آخر الحفاظ على الذات، غير أنه في حالة الحاكم، فأن الشرط الأول لتحقيق هذه الرغبة هو السلطة، فكيف يمكن الحصول على السلطة ؟ عن طريق تنظيم دولة قوية حسنة التنظيم.. وهي نفس الغاية التي يسعى أليها الرعايا، وهكذا فأن هناك تماثل أساسي في المصالح بين الحكومة والشعب.

إن تصور ( هوبز) هذا دفعه إلى الاعتقاد بأن من يتولى السلطة سيكون كفؤاً مثل أي شخص آخر، لأن مصلحة الحاكم والمحكوم هي واحدة. أما الإتجاه الثاني، تَزَعَّمَه الفوضويون، الذين أرادوا إلغاء الدولة نهائياَ، لتنتهي معها فكرة الحكم، ومن يُفترض به أن يكون حاكماً؟ ومن يجب أن يكون محكوماً ؟، حيث أنهم تصوروا إن السلطة سوف يساء استخدامها في كل الأحوال، وان النظام والسلام يمكن ضمانهما بدون قهر على الإطلاق، إذ يرون إن الجرائم التي تقع من الأفراد لا تعكس الطبيعة الجوهرية للكائنات البشرية " فالناس في الجوهر متعاونين وغير أنانيين، وسوف ينكشف ذلك عند ما تكون الحكومات إمّا قد دمرت، أو ربما تكون الحضارة قد ازدادت تطوراً". في حين جاءت إجابة الاتجاه الثالث على سؤال من يُفترض به أن يحكم ؟ منقسمة بين تيارين كبيرين من الباحثين والمفكرين والفلاسفة : التيار الأول هم أنصار حكم الأقلية – الذين يعتبرون أنفسهم النخبة -، والتيار الآخر هم أنصار حكم الأكثرية – الشعب -، ويبدو أن أنصار التيار الأول يرون أنفسهم الأكثر عدداً والأطول باعاً في التأريخ السياسي، تسندهم في أطروحاتهم التجربة التأريخية، إذ كانت الهرمية أو التراتبية في الحكم أقدم حضوراً تأريخياً من الديمقراطية، وتتلخص فكرة الوصاية الجديدة بالعبارة الآتية التي يوردها روبرت دال : تحتل الطبقة العاملة موقفاً تاريخيا فريداً، وان تحررها يعني بالضرورة إطلالة مجتمع لا طبقي، حيث يتم امتلاك وسائل الإنتاج والسيطرة عليها من قبل المجتمع، يتحرر الجميع من عبئ الاستغلال الاقتصادي والقسري، ويتمتعون بدرجة من الحرية، وتوافر الفرص للتنمية الذاتية بشكل لم يسبق له مثيل، إن فكرة الوصاية تأخذ حيزاً كبير من الفكر السياسي، إننا نُحرم من بشريتنا كبشر باضطرارنا إلى العيش تحت حكم ليس لنا دور فيه، واضمحلال البشرية سوف يحدث حتى لو كانت الحكومة خيرة وحكيمة، غير إنه إذا استبعد عدد كبير من الناس عن المشاركة، فان الحكومة سوف تكون بالتأكيد تقريباً أنانية ومستبدة، والحكومة بواسطة الشعب هي وحدها التي يمكن أن تكون حكومة مكرسة حقاً وبصورة ثابتة للصالح العام، لقد دفع الانقسام بين لاوعي الأكثرية، وأنانية الأقلية بعض كبار الفلاسفة إلى محاولة التوفيق بين الاثنين، كما فعل (أرسطو) الذي أراد منح السلطة لحكومة مختلطة تجمع الشعب والطبقة الأرستقراطية، لكن يبقى للوصاية (حكم القلة) رصيدها الفكري الهائل ومناصروها الكثر.

بعد أن اتضحت بعض الرؤى المطروحة والمبررة لحكم الأوصياء، فإن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي حصلت في الدول الديمقراطية الغربية أفرزت شكلا جديدا من الأوصياء صحيح أنهم قد لا يطرحون أنفسهم بصورة القائد العربي الملهم أو الحزب الطليعي، لكنهم أشد وطئا وأعظم خطراً، فإذا كانت بلدان العالم الثالث لازالت تعيش اغلبها في ظل وصاية تقليدية: دينية، عسكرية، قبلية، مناطقية، فأن البلدان الغربية ظهر فيها شكل جديد من الوصاية مثلته نخب سياسية، واقتصادية، وعسكرية تحالفت مع بعضها، وترابطت مصالحها، فشكلت قوى مؤثرة تتحكم بصناعة القرار، وتوجه قراراتها وسياساتها الداخلية والخارجية الوجهة التي تخدم مصالحها فقط، لذا فأن مرجعيتها هي التي تحدد منظومة قيمها التي تؤمن بها وتقاتل من اجل تحقيقها، إن الأوصياء الجدد في العالم العربي فضلا عن أنها حرمت الكثير من البشر من القدرة على توفير احتياجاتهم الاقتصادية فإنها تركتهم أيضا اقل قدرة على ممارسة حقوقهم السياسية، فهي لم تقاوم الائتلاف والتضامن وحسب، بل تشجعت الأنانية واعتمدت على المراكز الفردية التنافسية فيما بينها، وتشجع الأقليات على ممارسة دورها في السياسة والاقتصاد بطرق مهينة ومذلة للأكثرية الفقيرة، وينظر الأوصياء الجدد إلى مطالب الأغلبية الفقيرة من الناس للقرارات التي تحسن من عيشهم على أنها أعباء لا يمكن تحملها.

إن بروز مثل هذه الفئة الجديدة المشبعة بالقيم الرأسمالية يهدد بخطر مستقبلي، إذ على الرغم من بقاء هيكل النظام السياسي ديمقراطياً، فأن المحتوى استبدادي ودكتاتوري، إن تحكم الأوصياء الجدد بوسائل الإعلام جعلهم يمارسون تسطيحاً في وعي الناس وتلاعباً بعواطفه وتوجيهاً لرأيه العام الوجهة التي يرغبونها في الوقت الذي يظن الناس إن الخيار خيارهم والقرار قرارهم والأمر خلاف ذلك تماماً، ولا يمكن تجاهل دور وسائل الإعلام في هذا المجال، فيقال: تصبح وسائل الإعلام ديناً علمانياً وتحل أساساً محل التأريخ المشترك والثقافات الوطنية والأديان الحقيقية والعائلات والأصدقاء بعدّها القوة المهيمنة التي تكون تصوراتنا العقلية للواقع.

أمّا بالنسبة للأوصياء الجدد من اليمانيين لم تعد الديمقراطية الشكلية هي النظام الأصلح لهم وحسب، بل إن ما يزيد من أرباحهم ويحقق مصالحهم في السيطرة والنفوذ هو الذي يخص بالثناء والتقدير، وما عداه يمكن الاستغناء عنه ولو كانت فيه مصلحة الأغلبية والوطن، وهذا الواقع هو ما يتميز به أولئك الذين بإمكانهم تعبئة مؤيدي مصالحهم الخاصة بشكل فعال، لقد أخذ فيتو الأقلية يحل محل صوت الأغلبية، كتحالف حزب مع آخر أو فئة مع فئة أخرى مثلاً.

إذاً البشر هم بحاجة في الوقت الذي تثير إعجابهم الديمقراطيات الغربية إلى إدراك النفق الذي دخلته الديمقراطيات العربية وان تبدأ مرحلة جديدة في الفكر السياسي الديمقراطي تطرح خلالها رؤى وأفكار جديدة لتكييف عصر المعلوماتية لمصلحة الأكثرية بدلا من مصلحة أقلية أوصياء جديدة، وإلا فالأمل في تحقيق المنهج الديمقراطي في الحياة لن يكون إلا سرابا بعيد المنال.