الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٥:٥٤ صباحاً

أحزاب ما بعد الأيديولوجيا

د. عبدالله أبو الغيث
الثلاثاء ، ١١ مارس ٢٠١٤ الساعة ٠٤:٤٠ مساءً
يتفق معظم المفكرون والمحللون السياسيون بأن العصر الذي نعيش فيه (عصر العولمة وشيوع نموذج الدولة الديموقراطية التعددية) لم يعد يتيح مجالاً كبيراً للأحزاب الأيديولوجية (العقائدية) وأنه صار عصراً للأحزاب البرامجية بصورة ملحوظة.

ويربط كثير من الدارسين بين الأحزاب الأيديولوجية والدولة الشمولية ويعتبرونها صورة مصغرة لها، بينما يتعاملون مع الأحزاب البرامجية باعتبارها صورة مصغرة للدولة المدنية الديموقراطية.

ما سبق يجعلنا نتحدث عن أحزاب ما بعد الأيديولوجيا في اليمن، خصوصاً ونحن مقدمون على مرحلة جديدة في تاريخ الدولة اليمنية بعد أن تم اعتماد نظام الفيدرالية في إطار الأقاليم كأهم مخرج من مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل.

إذا تأملنا في الخارطة الحزبية لليمن سنجد أن أهم أحزابها هي عبارة عن أحزاب تاريخية مؤدلجة، ورغم التغيرات التي شهدتها الساحة اليمنية منذ عام 90م إلا أن تلك الأحزاب مازالت تمارس عملها انطلاقاً من لوائح عتيقة وضعت لمراحل سرية تصل إلى ما يقارب المقدسات، وترتبط بالمؤسسين الأوائل خارج اليمن، أمثال لينين وحسن البنا وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر. بينما تذهب بعض الأحزاب بعيداً في التاريخ وتعتبر نفسها امتداً لعصر الحسين بن علي أو ابن تيمية رحمهما الله.

قد يقول قائل ماذا عن المؤتمر الشعبي؟ هو حزب كبير وغير عقائدي، وكلامهم صحيح، لكن العقيدة غير المباشرة التي قام عليها المؤتمر هي أنه أسس كحزب حاكم؛ أو حزب للحاكم بتعبير أدق، وبالتالي من ارتبطوا به كانوا يبحثون في معظم الأحيان عن مصالح خاصة يجنونها، ولعل ذلك ما جعل أعضاء هذا الحزب يربطون مصيرهم بمصير (زعيم) وحيد بدأوا معه ويريدون أن ينتهوا معه.

وربما يتساءل آخر عن الأحزاب الجديدة التي أسست بعد الثورة الشعبية، وبهذا الخصوص نستطيع أن نقول بأن معظم تلك الأحزاب كانت إما أحزاب أيديولوجية كحزب الرشاد (السلفي) أو أنها امتداد لأحزاب وحركات قائمة ونسخ مكررة منها، أو هي عبارة عن أحزاب شللية نتجت عن مجالس قات تجعل منها منتديات مصغرة أكثر منها أحزاباً.

قد نستثني هنا حزب العدالة والبناء الذي نستطيع أن نقول أنه يمكنه تقديم نفسه كحزب مهم وغير مؤدلج، لكنه لن يغدو حزباً مؤثرا وفاعلاً إلا إن تخلى عن حصر نشاطه في إطار النخبة وانطلق صوب اكتساب قواعد من المثقفين والشباب وعامة الناس باعتبارهم مواطنين وليس مجرد قطيع في ركب هذا الشيخ أو ذاك الوجيه، إلى جانب عمله على استقطاب العناصر المعتدلة من كل الأحزاب الأخرى وعدم اقتصاره على النازحين من أعضاء حزب المؤتمر الشعبي.

ليس المطلوب هنا من الأحزاب الأيديولوجية اليمنية (الإسلامية واليسارية والقومية) التخلي الكامل عن أيديولوجياتها، لكن المطلوب كما يقول أحد الكُتاب هو أن نجعل البرامج توجه الأيديولوجيا بدلاً من تحكم الأيديولوجيا في البرامج.

تحول الأحزاب الأيديولوجية القائمة إلى أحزاب برامجية سيمكنها من استقطاب عناصر تحظى بالشعبية للترشح على قوائمها - من غير أعضاء الحزب – على أساس التوافق على برنامج انتخابي يتم تنفيذه كما يحدث في كثير من بلدان العالم الديمقراطي، بينما العمل في إطار حزب أيديولوجي يتطلب من العضو سنين وعقود من العضوية ليكتسب ثقة قيادة الحزب التي تقدم نفسها هنا بصفتها الراعي المؤتمن لعقيدة الحزب والأقدر على قيادته أمام الآخر الذي يصبح عدواً أو على الأقل متآمراً ومتربصاً في المنظور الأيديولوجي، بينما يصير شريكاً ومنافساً في المنظور البرامجي.

الى جانب أن الحزب البرامجي تصبح الاختلافات الداخلية بين أعضائه مجرد تباين في وجهات النظر، بينما ينظر للاختلاف في إطار الحزب الإيديولوجي في أحيان كثيرة باعتباره مروق عن الفكرة والمنهج، وربما يصل الأمر إلى التخوين والتفسيق، خصوصاً إن ارتبط الأمر بقلة متنفذة في إطار هذا الحزب أو ذاك تريد أن تحافظ على مصالحها باسم المصلحة العامة للحزب التي ستصبح في خطر داهم وكبير إن انتقلت شؤون الحزب لغيرهم حسبما يعتقدون أو بالأصح كما يُسوِقون.

الأحزاب الأيديولوجية وهي في طريقها للتحول إلى أحزاب برامجية هي بحاجة أن تُخضع لوائحها العقائدية العتيقة للتطوير والتغيير الشامل، لأن الدهر قد أكل عليها وشرب، لكونها قد صيغت في عصرٍ غير عصرنا ولأوضاعٍ غير أوضاعنا ولأناسٍ غيرنا بالتأكيد، والإصرار على بقائها إنما سيقود أصحابها إلى التقزم وربما الاندثار، وبالتالي يجب أن تصبح مسألة التغيير مصلحة عامة حتى إن أدت للتضحية بجزء من مصالح البعض التي يجنونها من بقاء الأوضاع على ما هي عليه.

تحول الأحزاب الأيديولوجية إلى أحزاب برامجية سيتطلب من قيادات تلك الأحزاب القضاء على ثقافة التمديد والـتأبيد والتكويش التي يكرسونها في أحزابهم، والانطلاق لتعميم قيم الديمقراطية والتعايش والعدالة والمساواة في إطار أحزابهم، لأن حزب يفتقد لتلك الأمور في إطاره التنظيمي لا يمكن أن ننتظر منه تحقيقها في الإطار الوطني العام.

قيادة الأحزاب اليمنية بشكل عام بحاجة لتكريس قيم الشراكة لكل أعضائها، بحيث تشعرهم أنهم شركاء في أحزابهم يحضون بالثقة والاهتمام، بحيث تُوزع المسؤوليات التنظيمية والعامة بين أعضاء كل حزب بناء على قدراتهم وكفاءاتهم وخبرتهم بدلاً من تكريسها وتكثيفها في يد قلة قليلة من المقربين من قيادة الحزب، حتى أنك تجد بعض الأعضاء وقد أثقلتهم المهام بينما غيرهم - لا يقلون عنهم كفاءة وقدرة إن لم يفوقونهم - يقتلون فراغهم بلعب البطة ومصمصة حبات الزعقة!

أعضاء الأحزاب جميعهم بحاجة أن يحسوا بأن أحزابهم ملك لهم جميعاً وليس مؤسسات خاصة بعلان أو فلتان، ويشعرون بأن لهم أدوراً يمكن أن يقوموا بها جنباً إلى جنب مع النافذين في أحزابهم، وأن لا تقتصر مهامهم على دفع الاشتراكات وتكثير السواد في المظاهرات وعند صناديق الاقتراع.

ختاماً: اتمنى أن أشاهد على الساحة اليمنية حزباً برامجياً يقوم على أساس ما بعد الأيديولوجيا، بحيث يشمل بين أعضائه عناصر معتدلة من مختلف التيارات والأحزاب والجماعات اليمنية بكل ألوان طيفها، يتعايشون فيما بينهم وفقاً لمبدأ ما بعد الأيديولوجيا، شريطة أن يكون حزباً جاداً ويشتمل على عناصر معروفة بنزاهتها وعدم اتخاذها من الإيديولوجيا سجنا تحبس نفسها فيه، وأن يدور هذا الحزب مع الحقيقة والمصلحة العامة أينما دارت .. هل تراني أعيش في حلم يقظة؟ ربما.