الاربعاء ، ٢٤ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ٠٢:٠٣ مساءً

رسائل إلى أمي

إلهام الحدابي
الاثنين ، ٢٠ يوليو ٢٠١٥ الساعة ٠٢:٥٩ مساءً
(3)

عن الفقد







أمي كل شيء ينتهي هنا منذ بداية الطريق !

أتذكر تعريفات الفقد التي حفظتها منذ الطفولة؛ أتذكر رائحة الدموع وهي تتسرب خارج مستودعات أحداقنا..

ذرفنا الكثير من الدمع ؛ ذرفنا الكثير من الفقد؛ كان الربيع يطل بزهوره الندية؛ ونبتسم لها رويداً ثم سرعان ما تستحيل تلك الابتسامات إلى عويل طويل.

حتماً لم نكن نقطة خارجة عن السطر

هم يوهمننا بذلك!

ونكاد نصدق ذلك الوهم؛ كما نصدق أشياء كثيرة؛ مثل أن الحاكم العربي لا زال يمتلك شرفاً ما !

أو أن القبيلة كانت في يوم ما دولة شريفة !

أو أن البطولة هي أن تقدم رأسك من أجل ملك !

كل تلك الأوهام لا زالوا يؤمنون بها؛ ويقولون أن الله قال ذلك !

اللحظة أفتح النافذة؛ تأملت نتوء الخشب القديم على حوافها؛ كانت حزينة مثلي تماماً؛ الفرق بيني وبينها نسبة الشعور بالحزن ؛ هل الأخشاب تحزن يا أمي ؟!

لم تخبريني بذلك في دروس الطفولة..

لكني علمت في الكبر أن الأشجار تحزن

وتبكي

وتختنق كمداً من الفقد؛ لكنها لا تموت..

و الإنسان يموت.

يموت فرقاً؛ يموت جوعاً ؛ يموت حرقاً؛ وغرقاً؛ وشنقاً...

لكنه لا يموت كما تفعل الأشجار

الأشجار التي تظل شامخة حتى بعد موتها.

تفقد الأشجار حياتها في لحظة ما؛ لكنها لا تفقد وجودها في أحداقنا؛ بعض الناس مثل تلك الأشجار السامقة؛ يموتون في لحظة ما..

لكنهم يعيشون بيننا أبد الدهر؛ ليس في عالم الأحداق بل في عالم الروح؛ ذلك العالم الذي يمتد من زمن السؤال إلى زمن البحث؛ إلى زمن اللاإجابة ثم القناعة بأنه أكبر من أن تراه الأحداق التي لا ترى موت الأشجار .

.....

لماذا نفقد يا أمي ؟!

وما الفقد ؟!

وما الأشياء التي نفقدها بصدق ؟ وما تلك الأشياء التي لا نفقدها وإنما ندعي فقدها ليلتبس علينا الحزن والفقد تماماً مثل بقرة بني إسرائيل؟!

سأل آينشتاين نفسه أسئلة عقيمة في زمن ما...

سأل: هل نسير على أقدامنا ؟ أم على رؤوسنا ؟!

سؤال تافه لأول وهلة..

لكنه بعد زمن أصبح أساس نظرية الحركة التي نعيش فيها؛ أصبح أساس الطاقة التي تنير العالم؛ وتأخذنا في مقتل بسبب غباء حاكم القبيلة.

أتعلمين يا أمي..

أحياناً أقول لنفسي: نحن لا نفقد شيء أبداً

نحن ندعي الفقد...

هو شعور مر؛ يشبه ابتسامة القهوة عندما تترمل من شجرتها.

هو شعور يشبه بكاء السماء؛ التي تحاول عبثاً البحث عن دموع في مدن الصحراء..

ويشبه الخوف الذي يسكن أحداق الصغار

ذلك الخوف الذي لا تسعفه الكلمات ولا الصمت..

الفقد الذي ندعيه ييتمنا ويطردنا من عالم الكلمات؛ ويبقى الفقد الحقيقي جاثماً في مكان ما في الذاكرة..

يحاول أن يستدعينا دون فائدة..

الفقد الذي ينتظر هو الأولى بالحزن والشعور..

هو الأجدر بالتأمل..

وهو الأحق بالمصالحة؛ذلك أننا عندما نعود إلى حجر الزاوية..

ونتأمل الفقد المريع...

يكون أشبه بتجويف يلتهم كل شيء جميل حولنا..

لنردم الهوة بسرعة قبل أن تلتهمنا..

ولنكن صادقين للحظة واحدة فقط مع الفقد..

لنحاول أن نقترب من تلك التجاويف التي تملأ ذواكرنا

لنسأل الفقد نفسه عن هويته..

لنعالج جرحه ثم نودعه عالمه

وإن كان جرحه غائراً فدواءه حكمة الزمان: الأيام تصلح ما أفسده الزمان.

الأيام تفعل ذلك..ولكننا دائماً ننسى ما الفقد !