الجمعة ، ١٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١٢:١٩ صباحاً

هيهات أن يستمروا طويلا..!!

عبد الملك شمسان
الجمعة ، ٢٦ يونيو ٢٠١٥ الساعة ٠٢:٤٦ صباحاً
ابتلاه الله بمنع الولد فصبر، ثم ابتلاه بالولد على كِبَر فشكر، ثم لما بلغ ابنه مبلغ الفتيان واستقر له في قلب أبيه شيء مختلف من الحب والشعور ابتلاه بما هو أعظم وأشق، إذ أمره بالتخلص منه، بالقتل والقتل أبشع وأفظع، وبالذبح والذبح أشد وأقسى، بل وأن يذبحه هو بيده..

يا الله، ما أعظمه من ابتلاء لرجل عرف محبا للناس كريم النفس عطوفا فائض الرحمة والحنان!! وأي إنسان يتأمل هذا البلاء لا يمكن أن يصفه إلا بأنه بلاء مبين، لكن الله تعالى يصفه بقوله (إن هذا لهو البلاء المبين)، ولئن توافق كلام الإنسان مع كلام الله في وصف هذا بـ"البلاء المبين"، فإن الفرق بينهما شاسع ممدود كالفرق الشاسع بين القائلين، والله أعلى وأجل وله المثل الأعلى.

ذلكم هو الأب الإنسان والنبي الرسول إبراهيم صلوات الله عليه، جاء إلى ابنه يدعوه ليذبحه تنفيذا لأمر الله، وها هو أمامه منكسر كأنما يستجديه شيئا (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى).

لم يقل له إن الله أمرني أن أذبحك حتى لا ينسب هذا الأمر القاسي إلى الله، وحتى لا يصدم الابن بنسبة هذا الأمر إلى الله الذي يحبه، ولئلا يفهم منه الصبي أنه أمر إلهي واجب التنفيذ فيكون بذلك قاسيا عليه، بل راح يعرض عليه الأمر مخففا من كل ذلك، وكلاهما يعرف أن رؤيا الأنبياء وحي وأمر من الله واجب التنفيذ كالأمر المباشر، فقال له (إني أرى في المنام أني أذبحك)، بل وقال له فوق ذلك (فانظر ماذا ترى) وكأنه يأخذ رأيه في الأمر.
ينتظر الرد وهو ينظر إلى ملامح ابنه ليرى ردة فعله قبل أن يسمع جوابه، فيأتيه الجواب العجيب (يا أبتي افعل ما تؤمر).. (يا أبتي)، خطاب حميم يقابل خطاب أبيه الحميم الودود (يا بني).. (افعل ما تؤمر) فهذا أمر واجب التنفيذ لا مجرد رؤيا.. (افعل ما تؤمر) فهذا أمر غير قابل للنقاش وليس لي رأي فيما أمر الله به سوى التسليم والرضا.

(يا أبتي) خطاب حميم يقابل خطاب أبيه الحميم (يا بني)، و(افعل ما تؤمر) تقابل (إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى)، وزيادة عليه قال له (ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، عاكسا بهذه الزيادة شعور المؤمن المستنهض إيمانه في نفسه، المستجمع له في عقله وقلبه، المستعرض له أمام أبيه في تلك اللحظة ليطمئن قلبه.

وهذه صورة أخرى للمقارنة، صورة احتشد الكون كله من أجل بطلها نوح صلوات الله عليه، فكان الطوفان الرهيب والمطر الغزيز الذي لم تمطره السماء من قبل ولا بعد، وأثناء ذلك يقبل الأب الإنسان والنبي الرسول يدعو ابنه ليحييه تنفيذا لأمر الله (يا بني اركب معنا)، فيصعر الابن خده ويقول (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء).

هذا يدعوه ليحييه فيقول لا، وذاك يدعوه ليذبحه فيقول (يا أبتي افعل ما تؤمر). وانظروا إلى الخطاب الحميم الودود لنوح صلوات الله عليه وهو يناديه ليحييه في الدنيا والآخرة (يا بني)، فلا يقول له الابن المجرم: يا أبتي، بل يقول مباشرة (سآوي إلى جبل).
هكذا هم المجرمون، إذا جاء أمر الله ليأخذهم جعل يملي لهم، فكلما ضاقت فتح لهم بصيصا من الأمل ليستمروا، ولكن هيهات أن يستمروا طويلا (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين).